للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع الجهاد في سبيل الله]

وقوله تعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:١١] ، هذه الآية تبين أن مفهوم الجهاد لا يتمثل فقط في الجهاد بالسيف.

وهذا من المسائل التي أخطأ فيها المترجمون الذين ترجموا معاني مفردات القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن الترجمة الخاطئة أن يترجم الجهاد بمعنى (Trajel) فقط، ويحصر مفهوم الجهاد في القتال.

وهذا مفهوم قاصر، فالجهاد أعم من القتال، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن) ، وهناك صور من صور الجهاد غير القتال، كالجهاد بالمال، والجهاد بالكلمة، ومنها حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر) .

ومن هذا الباب: مجيء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! إني أريد الجهاد معك، فقال له عليه الصلاة والسلام: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) ، فهناك مجاهدة بصور متعددة؛ فترجمة الجهاد إلى (Trajel) بمعنى القتال، تفسير قاصر، وترجمة قاصرة من المترجم الذي قام بها.

ولذلك قال كثير من العلماء المعصرين: إن التفاسير التي ترجمت الآن من بعض الإخوان وإن كانوا على درجة من الخلق الحسن والصلاح، لكن لقلة علمهم بالمدلولات الشرعية أخطئوا في كثير من الألفاظ حين ترجموها، ولكن استدركوا على مثل هذه الترجمة القاصرة بعموم سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وبعموم سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بين أن من الجهاد جهاد بالنفس قضى هذا البيان على حصر الجهاد في الجهاد بالسيف.

وهنا يقول الله سبحانه: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:١١] ، وكذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١] ، فقدم الجهاد بالمال في بعض الآيات على الجهاد بالنفس، وفي بعض الأحيان يقدم الجهاد بالنفس على الجهاد بالمال كل بحسبه؛ فلذلك إذا سمعت حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) ؛ فلا تظن أنه انتهى بعدم وجود المعارك بل عليك أن توقن بحديث نبيك محمد عليه الصلاة والسلام وأنه مراده به كل أنواع الجهاد.

وفي الحقيقة أن هذا باب مفتوح لمن أراد أن يجاهد الآن، فلا تركز على مطعمك ومشربك ومنكحك وبيتك وتهمل الدعوة إلى الله، وتهمل نصرة كتاب الله وسنة رسول الله، فباب الدعوة لهذا الغرض مفتوح ومتسع، ويستنزف كل أموالك، بل كل حياتك، حتى إذا اشتريت مائة شريط في السَنة ووزعتها على سائقي السيارات، تبث من خلالها كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنشر بها خيراً، أو تنشيء مصالح خيرية، أو تساعد في مصالح خيرية؛ فإن الجهاد بالمال ماض أيضاً إلى يوم القيامة، وهو أحد أقسام الجهاد.

كذلك كلمة الحق التي أخذها الله سبحانه منك، ومن كل من تعلم وأوتي نصيباً من العلم، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:١٨٧] ، فإذا خصصت جزءاً من حياتك للتفقه في دينك، وجزءاً من مالك لنشر كتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم؛ فإنك مجاهد حينئذ، وأنت على ثغر من الثغور وإن كان لا يشعر بك أحد من الناس.

قال الله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [الصف:١١-١٢] ، ومعنى عدن: إقامة، عدنت في مكان كذا، أي: أقمت في هذا المكان، أي: هي جنات إقامة وخلود لا يخرج منها الشخص، فإن الموت يذبح كما في الصحيح وغيره، قال عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح، فيوقف على قنطرة بين الجنة والنار، فينادى: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.

هذا الموت، وينادى: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم.

هذا الموت، فيذبح الموت على قنطرة بين الجنة والنار، ثم تلا الرسول عليه الصلاة والسلام {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:٣٩-٤٠] ) ؛ فجنات عدن: أي جنات إقامة.

{وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [الصف:١٢-١٣] أي: وبشارة أخرى تلحقكم إذا أنتم آمنتم وجاهدتم بالأموال وبالأنفس.

ما هي هذه الأخرى التي تحبونها؟ {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} [الصف:١٣] ، في الحياة الدنيا، {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:١٣] ، ما المراد بالفتح القريب؟ قال فريق من أهل العلم: إن المراد بالفتح القريب هو فتح مكة.

وقال آخرون: هو أعم من ذلك، وهو عموم الفتوحات التي فتحها الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الصحابة الذين جاهدوا معه، ومن بعده.

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:١٣] ، البشارة إذا أطلقت فهي بشارة بالخير، وإذا قيدت البشارة فعلى حسب ما قيدت به، فإذا قلت: أبشر يافلان، فهذه البشرى معناها بشرى بالخير، لكن إذا قيدت فعلى حسب ما قيدت به، كما قال سبحانه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:٣] ، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:١٧-١٨] ، وللبشرى فقه وأحكام متسعة وليس المقام مقامها.

قال سبحانه وتعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:١٣] ، يؤخذ من هذا استحباب التبشير بالخير.

أما التبشير بالشر وبما يكره، هل يستحب أو يكره؟ الظاهر أن له فقهاً وأحوال، فقد تدافع علي والزبير رضي الله عنهما لما قتل حمزة، ومثل به، وشقت بطنه، واستخرجت كبده، فجاءت أخته صفية تبحث في القتلى عن أخيها حمزة، وعن الذي أصابه، فرآها علي والزبير، فقال علي للزبير: أخبر أمك بشأن أخيها حمزة، وقال الزبير لـ علي: بل أخبر عمتك أنت؛ إني أخاف على عقلها.

، الحديث إلى آخره.

فهل البشارة بالسوء يتحفظ فيها الشخص؟ نعم.

اللهم إلا إذا قوي إيمانك وإيمان من سيلقى إليه الخبر، فلهذه المسائل فقه، ولها أحوال، والله سبحانه أعلم.

أما البشارة بالخير فقد بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، كما في حديث: (ائذن له وبشره بالجنة) ، إلى غير ذلك.