للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سبب نزول قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا.)

{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:١١] أي: انصرفوا إليها.

نزلت هذه الآية -كما في الصحيحين وغيرهما- بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب وأصحابه معه في المسجد، وكانوا في حال من القلة -قلة المال والطعام- فسمعوا بعيرٍ قد قدمت من الشام، ومن العلماء من ذكر أن الذي كان قادماً بالعير هو عبد الله بن سلام، ومنهم من قال أقوالاً أخر.

والعير لها جلبة وهي آتية أصوات وصبيان ينادون: التجارة وصلت والبضاعة جاءت إلى آخر هذه الضجة التي تصاحب التجار، وإلى غير ذلك من الصخب الذي هو معهود من أهل الأسواق، فخرج المصلون من عند رسول الله وتركوا الخطبة، وذهبوا إلى التجارة، وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلاً، فهذا يفيدك إفادة أن الصحابة رضي الله عنهم بشر، يجري عليهم ما يجري على البشر، فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم بشر، فالملتحون أيضاً بشر، والسنيون أيضاً بشر، إذا كان الصحابة رضي الله عنهم صدر من بعضهم أشياء فأولى ثم أولى أن تصدر من السنيين، فلا تستغرب إذا قيل: إن هناك سنياً سارقاً، وردت أشياء مثل ذلك على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: قطعت يد المخزومية رجل من الصحابة رضي الله عنهم أقسم يميناً كاذبة امرأة على عهد الرسول اتهمها زوجها بالزنا وتلاعنا عند الرسول عليه الصلاة والسلام، وكل أقسم أربعة أيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقف يذكر بالله، والمذكر هو رسول الله! سيد ولد آدم! والزوج وزوجته معاً أمام رسول الله وأمام المسلمين، والرسول يقول لهما: (الله يعلم أن أحدكما كاذب) ، مؤكد يقيناً أن أحدهما كاذب، (الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟) ، ولم يتنبها لهذه المسألة، وأقسما، فإذا كان هذا هو شأن خير القرون، إذاً نحن من باب أولى لسنا بمعصومين، ولذلك إذا قال ربنا سبحانه في شأن أهل الإيمان: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:٣٥] ، فدليل على أنهم عملوا أعمالاً سيئة، {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الفتح:٥] وهذا واضح.

فالشاهد: عند مناقشتك للأشياء أو عند إصلاحك بين الناس لا تجعل للحية مرتبة لا تنخرم، لا بل هم بشر، والمسلمون كلهم بشر يجري عليهم ما يجري على البشر.

أصحاب رسول الله رأوا تجارة أو لهواً وانفضوا إليها وتركوا الرسول يخطب، لا أظن أن هناك من هو أحسن خطبة من رسول الله أبداً بحال من الأحوال عليه الصلاة والسلام، كلهم خرجوا، وما بقي إلا اثنا عشر رجلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:١١] ، قال عليه الصلاة والسلام في بعض الروايات: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) .