للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ولاية الله لنبيه]

قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤] : هذا حث منه تعالى على التوبة إليه، ولا يتصور أن جواب الشرط هو: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، إنما جواب الشرط محذوف، فالمعنى: إن تتوبا إلى الله فإن الله يتوب عليكما، ثم ابتُدئ كلام جديد: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، أي: مالت عن الحق في هذا الباب، أو في حبكما لتحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته على نفسه، فإن تتوبا إلى الله فإن الله يتوب عليكما.

(فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، أي: مالت قلوبكما عن الحق في هذا الباب، وأصغى أي: مال، (أصغى ليتاً وأمال ليتاً) كما في حديث أشراط الساعة، أي: مال.

(وَإِنْ تَظَاهَرَا) ، أي: إن تتعاونا أيتها الزوجتان على الرسول {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:٤] ؛ هذا كله في مقابل تظاهر امرأتين على الرسول، فالذي ينصر الرسول صلى الله عليه وسلم ويتولاه ضد هاتين المرأتين هم المذكورون في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ} [التحريم:٤] ، سيد الملائكة، {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم:٤] ، كـ أبي بكر وعمر وعموم الصالحين، {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:٤] .

فانظر إلى تأييد الله لرسله، فقد يقول قائل: إن الله سبحانه وحده كافٍ عبده، فما هو المستفاد من قوله: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:٤] ؟ وهذا كما قال فريق من أهل العلم: كقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:٩-١٠] ، فهو من باب طمأنة العبد، أعني أن تقاتل: الملائكة مع أهل الإيمان، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:١٢] ؟ وقال: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:١٠] .

فالشخص المسلم، يعرف أن الله معه وأن الله ناصره، لكن قد يستحوذ عليه الفكر أحياناً ويقول: في البيت شياطين، وفي الطريق شياطين، والشيطان قد يفعل بي! فتذكر أن الله قادر على حفظك، وأن هناك أيضاً ملائكة يحفظ الله بهم أهل الإيمان، كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:١١] ، أي: بأمر الله.

فهذا إنما هو من أجل طمأنة النفوس، وإلا فكفى بالله سبحانه وتعالى معيناً، وكفى به ظهيراً، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وحسب نبينا ونعم الوكيل! قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم:٤] ، أي: متولي نصرته عليكما ومتولي حفظه منكما، {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:٤] .

فمن هاتان المرأتان اللتان تنتصران على الله، ثم على جبريل، وصالح المؤمنين، وعلى الملائكة؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما ما حاصله: كنت حريصاً على أن اسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:٤] ، حتى خرج عمر مسافراً، فسافرت معه وعدل فعدلت معه، فذكر الحديث وفيه: (قلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:٤] ؟ فقال: واعجبا لك يا ابن عباس! هما: عائشة وحفصة) .

ثم ذكر الحديث مطولاً.

فالمرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هما عائشة وحفصة، وهذا الحديث في صحيح البخاري.

وهن رضي الله عنهن نساء حملهن على ما صنعن الغيرة والمحبة الزائدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا التصرف منهما مغمور في بحر فضائلهما رضي الله تعالى عنهما، لا كما يقول الشيعة الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فيطعنون في عائشة وحفصة لهذه الآية، وينسون أن الله قال في عائشة وفي زوجها رسول الله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:٢٦] ، وينسون أن الله أنزل عشر آيات في براءتها رضي الله تعالى عنها، وينسون أنها خُيرت بين الدار الآخرة والدنيا، فاختارت رسول الله والدار الآخرة، وينسون جملة مناقبها رضي الله تعالى عنها، فهذه منها مغمورة في بحر فضائلها.

وليست هي فحسب، بل أهل الإيمان على وجه العموم، وقد قال الله تعالى في شأن أهل الإيمان: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٣٥] ، فالمغفرة للذنوب، وبنو آدم ليسوا بمعصومين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ولماذا قدم جبريل ولم يدخله في عداد الملائكة، إذ قال الله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:٤] ؟ هذا التنصيص على جبريل لبيان منزلة جبريل عليه السلام، فهو سيد الملائكة كما قال كثير من أهل العلم.

قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:٤] ، بمعنى: ظهراء ومعاونون، وكلمة (ظهير) وإن كان ظاهرها الإفراد إلا أنها تؤدي معنى الجمع، كما قال الله سبحانه: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:٦٩] ، أي: حسن أولئك رفقاء، فكلمة (رفيقاً) وإن كان ظاهرها الإفراد لكنها تؤدي معنى الجمع، ومنه قول الشاعر: إن العواذل لسن لي بأمير أي: لسن لي بأمراء، فأحياناً تأتي الكلمة المفردة وتؤدي معنى الجمع.