للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمر الله سبحانه بتقواه والتوبة إليه والغلظة على الكفار والمنافقين]

ثم اتجه الخطاب إلى عموم المؤمنين، فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦] .

هذا حال هؤلاء الملائكة، قال بعض العلماء: إن الرحمة التي في قلوبهم تجاه أهل النار نزعت، فليس في قولبهم رحمة لأهل النار أبداً، لذلك لم يضحك مالك خازن النار منذ خلقه الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ) ، كم هؤلاء الملائكة؟ فُسروا بقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:٣٠] ، قال بعض العلماء: إن التسعة عشر هم الرءوس، يعني: القادة من خزنة النار، ولا يمنع هذا أن يكون هنالك ملائكة آخرون للعذاب، لما ورد في حديث الميت: (فيأتيه ملائكة معهم مسوح، وأكفان من النار ... ) إلى آخر الحديث.

والآية فيها حث بل إلزام للرجل أن يتفقد أهل بيته، ولا يترك للمرأة الحبل على الغارب لتصنع ما تشاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) ، والله قال: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:٦] ، ولذلك قال الله سبحانه أيضاً في الباب: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:١٣٢] ، وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:٥٤-٥٥] .

وكان النبي يحث أهل بيته على الطاعات كما في حديث: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، من يوقظ صواحب الحجرات كي يصلين، فيا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) أي: كم من نفس مكسوة مستورة في الدنيا تأتي مفضوحة يوم القيامة، لكونها عارية عن الأعمال الصالحة التي لم تجد ما تستتر به.

فأنت مسئول عن أهلك أمام الله لا تطع المرأة في المحرم لا تسحبك امرأتك إلى حيث الفسق والفساد والشر، فأنت قيم عليها، ومسئول عنها في الآخرة أمام الله سبحانه وتعالى، لذلك قال بعض أهل العلم في شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه) .

قال: لأنه يجب عليه أن يعلمهم حرمة هذه النياحة.

لذا يلزم العبد التوبة التي لا رجعة معها إلى الذنب بحال من الأحوال، هذا وربنا سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:٤٥] ، ونبيه عليه السلام يقول: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة) ، وأيضاً ذكر النبي: (عبداً أذنب فقال: يا رب أذنبت ذنباً فاغفره لي، فقال الله: علم عبدي أن له رباً يأخذ بالذنب ويعاقب به! قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً فقال: يا رب! أذنبت ذنباً فاغفره لي، فغفر الله له ... ) الحديث إلى آخره.

وتعريف التوبة النصوح بأنها هي التوبة التي لا عودة معها إلى الذنب أبداً، كما لا يرجع اللبن إلى الضرع؛ فيه نظر.

وقد ذكر العلماء ما يقرب من عشرين قولاً في ضوابط التوبة النصوح، منها: التوبة الصادقة، والتوبة الصالحة، ومنها: أن يعزم على أن لا يرجع إلى المعصية، لكن إن غلب على ذنب فيتوب أيضاً مع الذنب الجديد، والله أعلم.

فقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:٨] ، أصل التوبة الرجعة، تقول: تب إلى الله، أي: ارجع إلى الله سبحانه وتعالى يرجع عليك الله برحمته، ويرجع عليك بمغفرته سبحانه وتعالى.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ} [التحريم:٨] ، قال فريق من أهل العلم: إن (عسى) في كتاب الله تفيد التحقق إن شاء الله، {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم:٨] ، أي: إن أنتم تبتم.

وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، وقوله في نفس الآية: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم:٨] ، دليل على أن أهل الإيمان تصدر منهم سيئات.

{وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:٨] أي: نورهم يتقدمهم من كل اتجاه، من الأمام وعن اليمين، {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:٨] ، هذا النور كما تقدم تحريره يكون على قدر الأعمال وعلى قدر الصلاح، فمن كان على درجة عالية من الصلاح كان نوره أقوى وأشد، ومن كان على درجة من الشر والفساد كان نوره خافتاً، ومن كان على نفاق انطفأ نوره وهو في أشد الحاجة إليه.

قال الله سبحانه: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:٨] ، أي: أهل الإيمان، لكن متى يقولون هذا الدعاء؟ يقولونه وقد اعتراهم الخوف الشديد، لأنه فجأة يحدث إطفاء لبعض الأنوار أقوام كلهم سائرون معهم نور، ثم فجأة تنطفئ أنوار أقوام منهم، وهم أهل النفاق، كما قال الله سبحانه: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣] ، فقد كان معهم أنوار.

فانطلقوا فإذا بنور أهل الإيمان يثبت وإذا بنور أهل النفاق يخفت، فينادي المنافقون أهل الإيمان: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣] ، أي: نستضيئ بنوركم، {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:١٣] ، أي: هناك نور يوزع ويقسم في المكان الذي أخذنا جميعاً النور منه، فيذهبون يلتمسون نوراً فلا يجدون، فيرجعون كرة أخرى كي يدركوا أهل الإيمان، فيضرب {بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣] * {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:١٤] .

فأهل الإيمان يتوسلون إلى الله ويرجون ربهم، فيقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:٨] .

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} [التوبة:٧٣] ، بالسيف والسلاح، {وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة:٧٣] ، بالحجة واللسان، {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:٧٣] .

وهنا لا تعارض بين قوله تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:٧٣] ، وبين قوله تعالى لموسى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:٤٣] * {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:٤٤] ، فهناك فقه للخطاب -ولعله يأتي في محاضرة مستقلة إن شاء الله- فهناك أقوام تجدي معهم الكلمات اللينة، وأقوام لابد لهم من الغلظة والشدة حتى ينزجروا.

قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم:٩] ، الذي يصيرون إليه.