للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة.]

قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:٤] ، كذبت ثمود، وهي قبيلة نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم، وعادٌ وهي قبيلة نبي الله هود صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:٥] ، ما هي هذه الطاغية؟ الطاغية: قال بعض أهل العلم: هي صيحة شديدة، والطاغي: هو الزائد عن الحد، والرجل الطاغي أو الطاغية هو الذي تجاوز الحد في الظلم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:١١] ، والطاغوت: هو متجاوز الحد في الظلم.

{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:٤٣] ، أي: تجاوز الحد في الظلم.

قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة:٤-٥] ، ما هي هذه الطاغية؟ قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:٢٣] ، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر:٣١] ، فالطاغية: هي الصيحة.

قال بعض العلماء: طغت على الخُزَّان، فقالوا: إن كل شيءٍ يأتي من عند الله سبحانه وتعالى بقدر، قطرة الماء التي تنزل من السماء تنزيل بقدر، الرياح التي تسير، تسير بقدر، لكن الريح التي سلطت على قوم عاد، أو الصحية التي سلطت على قوم ثمود، والطوفان الذي سلط على قوم نوح طغى وعتى على الخزان، الريح التي أرسلت على عاد عاتية، عتت على خزانها، يعني: لم يستطع الخزان التحكم فيها ولا تقدير مقدارها، إنما عتت عليهم فلم يستطيعوا حصرها ولا ضبطها، وكذلك ما فعل بقوم نوح صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} ، أي: الصيحة الشديدة، التي طغت وزادت عن الحد.

{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة:٦] ، (بريح صرصر) والصرصر من العلماء من قال: هي الريح شديدة الصوت، ومنهم من قال: شديدة البرد، ومنهم من جمع وقال: شديدة الصوت شديدة البرد.

(بريح صرصر) قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: (نصرت بالصبا -أي: بريح الصبا يوم الخندق- وأهلكت عادٌ بالدبور) ، أي: الريح التي سلطت على عاد، وصفت هذه الريح في آيات أخر بأنها ريح عقيم، فالريح منها: ريح مبشرات، ومنها لواقح كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:٢٢] ، أي: تلقح وينتفع بها، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح يقول: رب أسألك خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فالريح قد يكون فيها نوع خير، وقد يكون فيها نوع شر.

أما الريح التي سلطت على عاد، فلم يكن فيها أي نوع من أنواع الخير، بل وصفها الله بأنها ريح عقيم لا تلد أي: لا تلد أي خير، ولا يتولد منها أي خير، بل كل المتولد منها شرٌ محض والعياذ بالله.

قال تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ) ، وهي تلك القبيلة التي أمدها الله بطول في الأجسام وسلامةً في الأبدان ونعمة في الأوطان، حتى تباهوا على سائر الخلق وقالوا: (من أشد منا قوة) ! وكانوا طوالاً كأمثال النخيل، كما قال جمهور المفسرين، فسلطت عليهم الريح العقيم، قال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} [الحاقة:٥-٦] ، شديدة الصوت شديدة البرد، (عَاتِيَةٍ) ، أي: عتت على خُزَّانها، ولم يستطع الخزان من الملائكة ضبطها ولا التحكم فيها، بل زادت عليهم.

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة:٧] .

(سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ) ، هذه الآية مستند لمن قال بالتفريق بين اليوم والليلة، وقال: إن اليوم يبدأ من الفجر إلى المغرب، والليلة تبدأ من المغرب إلى الفجر، وفي الحقيقة إن هذه من المسائل التي قد يتناول فيها اللفظ معنى لفظ آخر، وللسيوطي كتاب سماه (الشماريخ في معرفة الأيام والتواريخ) ونقل أنه أحياناً تأتي كلمة (اليوم) ويراد بها النهار فقط من الفجر إلى غروب الشمس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تستطيع أن تصوم ستين يوماً؟) ، وبلا شك أن المراد بـ (اليوم) هنا النهار فقط.

وأحياناً تأتي كلمة (اليوم) ويدخل في ضمنها الليلة، مثلاً: إذا قلت: مُرّ عليَّ بعد عشرة أيام، فالليلة تدخل مع هذه الأيام.

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} ، و (الحسوم) من العلماء من قال: إنها المتتابعة، فالريح عادة تهب وتسكن، لكن الريح التي سلّطت على قوم عاد ريح متصلة متتابعة حسمت مادتهم، كما تقول: فلان حسم الأمر أي: قطع الأمر وأنهاه، فهذه الريح حسمت أمرهم واستأصلتهم بكاملهم وأبادتهم عن آخرهم فانتهى أمرهم، فـ (حسوماً) على رأي كثير من العلماء معناها متتابعة.

ومنهم من قال: إنها من الحسم، ومنه: حسم يد السارق التي قطعت في الزيت، وذلك أنها إذا قطعت يد السارق يحسم باقي الذراع في الزيت المغلي حتى يقف الدم، فالحسم يطلق على القطع، فالريح كانت متتابعة، وكانت أيضاً حسوماً، أي: متصلة لا تفتر ولا تسكن لحظة واحدة.

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى} [الحاقة:٧] ، أي: هلكى، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} [الحاقة:٧] ، أي: أصول نخل، {خَاوِيَةٍ} [الحاقة:٧] ، أي: فارغة.

يعني: من شدة الريح قطعتهم فأصبحوا كأعجاز النخل المقطوع أعلاها وبقي أسفلها مفرغاً من الداخل، إذ أن الريح أتت وفرغتهم من الداخل فأصبحوا كأعجاز النخل -لطولهم- خاوية فارغة من الداخل.

فانظر إلى هذا المنظر من الإبادة، ريح تستأصل وتدخل على ما بداخل الأبدان فتقتلعه اقتلاعاً حتى أصبحت أبدانهم كأعجاز النخل الخاوية.

{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:٨] ، فهل ترى لهم الآن -يا محمد- من باقية؟