للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية)]

{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} ، من هو رسول ربهم؟ كلٌ عصى رسول ربه الذي أرسل إليه، فالمؤتفكات عصت لوطاً عليه السلام، وفرعون عصى موسى صلى الله عليه وسلم، فكل قوم عصوا نبيهم.

{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} ، لماذا لم يقل: (فعصوا رسل ربهم) ؟ من أهل العلم من قال: إن عصيان الرسول الواحد عصيانٌ لكل الرسل، كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:١٢٣] ، وهم إنما كذبوا هوداً فقط، فمن كذب هوداً فقد كذب كل المرسلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى) ، يعني: أبونا واحد وهو أصل التوحيد، وأمهاتنا أي: شرائعنا متعددة متنوعة، فمن كذب رسولاً في دعوته إلى التوحيد فقد كذب كل من دعا إلى التوحيد، فكل الرسل قالوا: (لا إله إلا الله) ، فإذا جاء نبيٌ وقال: لا إله إلا الله وكذبه قومه، فهم بذلك يكونون قد كذبوا كل المرسلين.

قال الله سبحانه وتعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:١٠] ، والرابي: هو الشديد.

فقوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} ، الرابية الشديدة الزائدة، وذلك من قوله: ربا الشيء إذا زاد، ومنه الربا: الذي هو الزيادة، ومنه حديث أبي بكر في قصة الأضياف: فما أكلنا لقمة إلا وربى أسفلها أكثر منها.

{فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} ، أي: أخذة شديدة زائدة عن الحد.

في قوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ} ، معادلة ثابتة تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ:١٦] ، {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ} ، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:١١٢] ، {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق:٨] ، وهذه سنن كونية ومعادلات وثوابت لا تتغير أبداً، وهي أن العصيان يجلب الانتقام، والطاعة تجلب الرحمة والرضوان، معادلات لا تتبدل أبداً وإن تأخر تحقق وقوع هذه المعادلات فهي واقعة بلا شك وبلا ريب، وعليك أن تمعن النظر فيها وتعرف أنها سنن لله في الخلق لا تتبدل، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:٧] ، هذه أصول ثابتة في كتاب الله، فلا تخدع من قبل إبليس، وتظن أنك ستفعل السيئات، وتجازى بالحسنات، فإن الله سبحانه ذكر قوماً على هذا المنوال فقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف:١٦٩-١٧٠] .

فاعلم تمام العلم، وأيقن تمام اليقين أن الطاعات تجلب رحمة الله وتجلب مغفرة الذنوب، وتجلب سعةً في الأرزاق وهدوءاً في البال وعافية في البدن، وأن المعاصي على العكس تماماً، تزيل النعم وتدمر البدن، وتوجد كل القلاقل والهموم والاضطرابات، لأن سنة الله سبحانه وتعالى لا تتخلف ولا تتبدل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٢٤] .