للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (عم يتساءلون، عن النبأ العظيم)]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

وبعد: فبمشيئة الله تعالى نبدأ من ليلتنا هذه بتناول جزء عم بالتأويل والتفسير، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

نبدأ بتفسير سورة النبأ وهي سورة عمَّ، فمن أطلق عليها سورة النبأ فلذكر النبأ فيها، ومن أطلق عليها عمَّ فلابتدائها بكلمة (عمَّ) .

قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:١] ، (عمَّ) أصلها: عن ما، أي: عن ماذا، فهي مركبة من كلمتين: عن وما، فأدمجت النون في الميم وقيل: عمَّ، كقولهم: مما، فهي كلمتان: من ما، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} أي: عن أي شيء يتساءلون؟ و {يَتَسَاءَلُونَ} معناها: يسأل بعضهم بعضاً، ومن هم الذين يتساءلون؟ كثيرٌ من أهل العلم يقولون: إن الذين يتساءلون هم المشركون، فالمشركون هم الذين يتساءلون.

ويتساءلون عن ماذا؟ أجيب على هذا السؤال في الآية التي تليها، إن سألت -يا محمد- عن أي شيء يتساءلون، فاعلم أنهم يتساءلون {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:٢] ، فهذا تأويل هذه الآية.

وقد قيل: إن المراد بالنبأ العظيم هو البعث بعد الموت، وهذا رأي جمهور المفسرين.

وقال فريق آخر من أهل العلم: إن النبأ العظيم هو القرآن، واستدل لهذا القول الثاني بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص:٦٧-٦٨] ، ومن العلماء من قال: إن النبأ العظيم هو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وإرساله إليهم.

فهذه ثلاثة أقوال مشهورة في تفسير النبأ العظيم، وكل قول منها قال به بعض العلماء، والذي عليه الجمهور: أن النبأ العظيم هو: البعث بعد الموت، والمراد بالنبأ الخبر، فعلى هذا يكون تأويل الآيات، عن ماذا يسأل بعضهم بعضاً؟ إن سألت عن ذلك -يا محمد- فاعلم أنهم يتساءلون {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:٢-٣] .

إن قال قائل: ذكرتم أن الذين يتساءلون -كما هو رأي أكثر العلماء- هم المشركون، فهل المشركون مختلفون في النبأ العظيم لأن الله تعالى قال: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} ؟ فهل المشركون يختلفون في البعث؟ والمعهود أن المشركين ينكرون البعث! فلماذا اختلفوا؟ وما هو وجه اختلافهم هنا؟ فالإجابة: أن المشركين لم يكونوا جميعاً مطبقين على أن البعث غير آت، بل كان منهم من يقر بالبعث، ومنهم من كان يتشكك في أمره، ومنهم من كان ينفيه بالكلية، فطوائف النصارى يقرون بالبعث، لكن البعث عندهم له صفات أخر، وأحداث أخر غير البعث الذي يعتقده أهل الإسلام، وكذلك طوائف من اليهود، فإنهم يقولون: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:٨٠] ، وهذا يفيد أنهم يقرون بالبعث، لكن له صفة معينة عندهم.

أما الذين يتشككون في أمر البعث، فكما حكى الله مقالتهم في قوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت:٥٠] ، وقال حاكياً عن بعضهم: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف:٣٦] ، أي: على فرض أن هناك بعثاً، فهذا الكافر يقول: لئن رددت إلى ربي فإنه قد أكرمني في الدنيا، فسيكرمني بكرامة أكبر منها في الآخرة.

وقال تعالى: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:٦٦] ، فكانت هناك طوائف تثبت البعث، لكن على صفات أخر، وطوائف تتشكك في أمر البعث، وطوائف تنفي البعث مطلقاً، كما قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:٧٨-٧٩] ، وقال الله سبحانه وتعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:٢-٣] ، فكانت طائفة منهم تنكر البعث، فهذه أوجه اختلافهم في النبأ العظيم على تفسير النبأ العظيم بأنه البعث بعد الموت.

أما على تأويل النبأ العظيم بأنه القرآن، فأوجه خلافهم فيه على النحو التالي: منهم من يقول: إنه {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:٥] ، أي: هو قصص من قصص اليهود كتبها أو اكتتبها وكتبها له شخص آخر، (تملى عليه بكرة وأصيلاً) كما هو مسطر في كتب اليهود، فاليهود يقولون: إن هذا القرآن من تعليم عبد الله بن سلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن عمى بصائرهم أن ابن سلام لم يسلم إلا في المدينة، وكثير جداً من آيات الكتاب العزيز نزلت على رسول الله بمكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إلى رجل من الموالي بمكة، فطعن الكافرون في القرآن وقالوا: إن هذا الرجل هو الذي يلقن الرسول عليه الصلاة والسلام القرآن، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ} [النحل:١٠٣] أي: الرجل الذي يميلون إلى أنه علم الرسول، {أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:١٠٣] .

فهذا وجه من أوجه اختلافهم في النبأ العظيم على تأويل النبأ العظيم بأنه القرآن، فطائفة منهم تقول: هو {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:٥] ، ومنهم من قال: إنه قول ساحر، ومنهم من قال: إنه قول كاهن، إلى غير ذلك من الأقوال.