للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (قتل الإنسان ما أكفره.]

{كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ الإِنْسَانُ} [عبس:١٦-١٧] ما معنى قتل؟ قتل في أغلب آيات الكتاب العزيز معناها: لعن.

{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:١٠] أي: لعن الخراصون، {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:٤] أي: لعن أصحاب الأخدود، فالله يقول: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:١٧] ما المراد بالإنسان؟ هل المراد بالإنسان الإنسان عموماً أو الإنسان الكافر؟ الظاهر أن المراد: الإنسان الكافر، فعليه: قتل أو لعن كل إنسان كافر؛ مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً وسواء كان أمريكياً أو إنجليزياً أو فرنسياً أو روسياً كلهم قال الله سبحانه وتعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ} [عبس:١٧] لعن هذا الإنسان، {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:١٧] .

في قوله تعالى: {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:١٧] ثلاثة أقوال للعلماء: القول الأول: أن (ما) تعجبية (مَا أَكْفَرَهُ) .

القول الثاني: (ما) استفهامية أي: ما الذي حمله على الكفر؟!.

الثالث: ما أشد كفره! هذه الأقوال الثلاثة في: (مَا أَكْفَرَهُ) .

ثم يقول سبحانه: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:١٨] ما هو الربط بين الآيتين: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:١٧] وقوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:١٨] ؟ كما يقول لك القائل ولله المثل الأعلى: لماذا تستكبر أنت ابن من؟ أبوك من؟ وأمك من؟! لماذا هذا الكبر وهذا الغرور وهذه الغطرسة؟ أنت أبوك فلان وأمك فلانة، يعرفهم الناس جميعاً، كما قال الشاعر: كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه وهو منه وإليه وأخوه وربيعه يعني: كيف تفتخر وأنت ليل نهار والوسخ والبراز في جسمك، فبأي شيء تفتخر؟ فقوله سبحانه: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:١٧-١٩] كما يقول الله في الحديث القدسي، عندما بصق النبي صلى الله عليه وسلم على كفه بصقة -تفل تفلة- وقال: (يقول الله: يا ابن آدم! أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه -وأشار إلى البصاق-؟!) عليه الصلاة والسلام.

{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:١٨] كما قال القائل: خلق من ماء خلقة نكرة، ثم بعد ذلك يكون جيفة قذرة، الإنسان بعد أن يموت يكون في القبر جيفة قذرة، ورائحته كريهة، وهو بين ذلك يحمل العذرة.

{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:١٨-١٩] هذا أبيض وهذا أسود وهذا أحمر، هذا أعور وهذا سليم العينين، هو سبحانه الذي يتصرف كيف يشاء، تخرج من بطن أمك ليس لك اختيار، لا تستطيع أن تتحكم لا في قدرك ولا في جمالك ولا في دمامتك، ولا كونك سوياً أو غير سوي، ولا في كونك غبياً أو ذكياً، أو قوي الذاكرة أو ضعيف الذاكرة، لا تستطيع أبداً أن تتحكم في نفسك على الإطلاق، ولا في نفس ولدك، فالذي يصور في الأرحام كيف يشاء هو الله سبحانه وتعالى.

{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:١٩] وقدر له الأرزاق، وقدر له الشقاوة والسعادة {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:١٩-٢٠] ما المراد بالسبيل هنا؟ للعلماء في السبيل قولان: أحدهما: أن المراد بالسبيل طريق الخير أو طريق الشر، كما قال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:٣] ، وقال: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:٥-١٠] .

وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:١٠] ، فهذا فيه أن سلوك طريق الخير مقدر، وسلوك طريق الشر مقدر.

والقول الثاني: اختاره ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى أن المراد بالسبيل هنا سبيل الخروج من بطن أمك بعد أن خلقك، ولو شاء لأوقفك في فرجها وماتت أمك، لكن سبحانه وتعالى يسر لك سبيل الخروج.

{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:٢٠-٢١] قال ابن جرير الطبري: سياق الآيات في مراحل خلق الإنسان أي: قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:٢٠] أي: سبيل الخروج من بطن أمه، فذكر الله سبحانه أنه خلقك من نطفة، ثم قدرك، ثم أخرجك من بطن أمك، ثم أماتك فأقبرك، ثم يوم القيامة يحييك، سياق الآيات في هذا الباب، هذا اختيار ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى.

{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:٢٠-٢١] أي: صيره إلى قبره، فالأشياء تموت ولا تدفن، أما ابن آدم فحين يموت يدفن، ويكرم بأن يغطى حتى ولو كان كافراً، فابن آدم يموت فيقبر، كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:٢٥-٢٦] فأنت إذا مت دفنت في الأرض وغطيت، ويوم القيامة يتلاشى هذا، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:٤-٥] .

فقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:٢١] امتنان من الله سبحانه وتعالى على الإنسان أنه صيره إلى قبر يقبر فيه.

{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:٢٢] يعني: بعثه، والنشور يطلق على البعث والخروج: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) .

{ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا} [عبس:٢٢-٢٣] ليس الأمر كما يظن الإنسان أنه قام بالتكاليف التي أمره الله بها، لا تتوهم ذلك أبداً أيها الإنسان، فإنك مقصر.

{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:٢٣] أي: ما قام ابن آدم بالتكاليف التي كلف بها، فالآية تمنع من الاغترار، قد تظن أنك أديت ما عليك، فالآية تقول: لا تظن هذا الظن، فإنك لم تقم بالتكاليف التي كلفت بها والأوامر التي أمرت بها، ولم تنته عن النواهي التي نهيت عنها.