للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق.]

قال الله: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:١٦] أي: فلا يظن هذا الظن السيئ: أنه لا بعث {فَلا} أكد هذا النفي قوله تعالى: {أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:١٦] .

أي: أقسم أن البعث آتٍ بالشفق وأقسم على بطلان ظنه أنه لا بعث بالشفق، والمراد بالشفق شفقان شفق أحمر وشفق أبيض، والشفق هو الحمرة التي تكون في اتجاه غروب الشمس مستعرضة في السماء وهي التي بها يدخل وقت العشاء، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (وقت العشاء ما لم يغب الشفق) فالمراد بالشفق هنا الشفق الأحمر، أما الشفق الأبيض فقد يمتد إلى منتصف الليل أو إلى قريب الفجر، فالشفق المعول عليه في الحديث في انتهاء وقت المغرب هو الإحمرار الذي يكون في اتجاه غروب الشمس وإذا اختفى هذا الإحمرار دخل وقت صلاة العشاء، فرب العزة يقسم بهذا الشفق فيقول سبحانه: ((فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ)) وقوله: {فَلا} نفيٌ للظن الذي تقدم ثم أكد هذا النفي بقوله تعالى: {أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق:١٦-١٧] .

((وَسَقَ)) معناها: جمع وحوى ولف وضم.

أي: والليل وما جمع.

والليل يجمع أشياء، فالليل فيه تنتشر الشياطين وفيه تنزل الثريا، وفيه تخرج السباع والهوام من أماكنها وتنتشر الحشرات، وينتشر أهل الشر والفساد يسطون على العباد، وتحاك المؤامرات في الليل، فلهذا أستعيذ بالله منه في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:١] إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:٣] ، وهو الليل إذا دخل وهو القمر أيضاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} دل على أن الليل يجمع أشياء، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (فأوكئوا القرب واذكروا اسم الله، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، وخمروا الآنية واذكروا اسم الله، وأطفئوا المصابيح واذكروا اسم الله) .

{وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي: وما جمع وحوى.

{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:١٨] أي: اكتمل واستوى، وهذا حينما يكون مكتملاً وذلك ليلة الرابع عشر، فيكون القمر متسعاً ومتسقاً، فقوله: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} أي: إذا اكتمل، فإن للقمر منازل، كما قال سبحانه: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:٣٩] فيتسق القمر في ليلة الرابع عشر والخامس عشر.

{وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} من العلماء من قال: إن هذا القسم مردود على ما سبق ونفي الظن أنه لا بعث، ومنهم من قال: إنه قسم مبتدأ لما سيأتي {أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:١٦-١٨] على ماذا هذه الأيمان؟ على الآتي ألا وهو {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:١٩] فالمعنى: أقسم بالشفق، وبالليل وما وسق، والقمر إذا اتسق {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أي: أنكم سوف تركبون طبقاً عن طبق.

وفي قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} قراءتان: القراءة الأولى: ((لَتَرْكَََبَنَّ)) بالفتح، والقراءة الثانية: ((لَتَرْكَبُنَّ)) بالضم، وقول من قال: ((لَتَرْكَََبَنَّ)) قال فريق من العلماء: إن المخاطب بهذه الآية هو النبي عليه الصلاة والسلام، فالمعنى لتركبن يا محمد حالاً بعد حال، ولتتغيرن بك الأمور حالاً بعد حال، وللعلماء في هذه -الحال بعد الحال- جملة أقوال: القول الأول: لتركبن يا محمد سماءً بعد سماء -وهذا في المعراج- وتنتقل من سماء، إلى سماء واستدل لهذا القول بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:١٥] فسماء بعد سماء.

يعني: طبقاً عن طبق.

القول الثاني: {لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:١٩] يا محمد! لتتغيرن أحوالك من حالٍ إلى حال فأنت في حالٍ مستضعف، وفي حالٍ قوي، في حال فقير، وفي حال غني، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:٦-٨] فتغيرت أحوالك يا محمد.

والقول الثالث: {لَتَرْكَََبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:١٠] ، أي: لتعلون منزلة بعد منزلة وشرفاً بعد شرف وقربة إلى الله سبحانه وتعالى بعد قربة، هذا إذا كان المراد في قوله: ((لَتَرْكَبُنَّ)) محمداً عليه الصلاة والسلام، وهو قول تقلده كثيرٌ من المفسرين.

القول الثاني: أن المراد بقوله: (لَتَرْكَََبَنَّ) أي: السماء.

أي: لتتغيرن أحوال السماء حالاً بعد حال، فمرة تكون السماء كالمهل، ومرة تنشق، ومرة تنفطر، ومرة تصبح السماء وردة كالدهان، فتتغير أحوال السماء من حالٍ إلى حال، ومن لونٍ إلى لون آخر، هذا على تأويل: (لَتَرْكَََبَنَّ) لأن الكلام فيه يعود على السماء، وأنها تتغير أحوالها لما يعتريها من أمر ربها سبحانه وتعالى.

القراءة الثانية: (لَتَرْكَبُنَّ) بضم الباء والمراد بها: الناس أو الإنسان، والمراد بالأحوال أو بالأطباق التي يركبها الناس ((طبقاً عن طبق)) جملة أقوال أحد هذه الأقوال: أن طبقاً عن طبق: حالاً بعد حال، في بطن أمك نطفة، ثم بعد أن تكون نطفة تكون علقة، ثم تكون بعد ذلك مضغة، ثم بعد المضغة تخرج من بطن أمك، ثم تكون طفلاً، ثم تقوى، ثم بعد القوة يحصل لك الضعف والشيب، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:٥٤] .

فقوله تعالى: ((طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)) أي: حالاً بعد حال، من النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى الطفل، إلى الشباب، إلى الشيخوخة، إلى الموت.

القول الثاني: في {طَبَقاً عَنْ طَبَق} حالاً بعد حال؛ لكن المراد به: تعتريك أيها الإنسان أحوال، فيعتريك الموت، ثم بعد الموت البعث، والمرور على الصراط، والميزان، وتلقي الكتاب، والجنة أو النار، فكلها أحوالٌ تعتري الإنسان، وكلها أطباق تعتري الإنسان.

والقول الثالث: أن {لَتَرْكَََبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أيها الإنسان! إنك ستتغير أحوالك، من صحة إلى ضعف، ومن ضعف إلى مرض، أو من مرض إلى صحة، ومن صحة إلى مرض، ومن غنى إلى فقرٍ، ومن فقرٍ إلى غنى، ومن رفعة إلى ضعة وذلة، ومن ضعة وذلة إلى رفعة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] .

هذه بعض الأقوال في تفسير قوله تعالى: {لَتَرْكَََبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:١٠] .

والحاصل: أن أحوال الإنسان لا تثبت على شيء واحدٍ أبداً، فإنك الآن في حياة وسيأتيك الموت لا محالة، وبعد الموت البعث، وأنت الآن قوي وغداً ستضعف ولابد، وأنت الآن غني وقد تتقلب بك الأحوال، وهكذا فالشاهد أن قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أي: لتتغيرن أحوالكم أو أحوالك يا محمد حالاً بعد حال أياً كان هذا الحال.

إذاً: المعنى: أن حال الإنسان لا يثبت على وضع واحد، فجدير بالإنسان إذا كان هذا شأنه، أن يكون شاكراً في السراء، صابراً على البلاء في الضراء.