للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (وما نقموا منهم.]

قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:٨] ، كانت الجريمة التي بسببها ألقي أهل الإيمان في النار أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد.

قد يقول قائل: إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:١٤١] فيكف تسلط أهل الكفر على هؤلاء المؤمنين وقذفوهم في النار؟ ف

الجواب

لأهل العلم أجوبة على ذلك: منها: أن المراد بالسبيل المنفي في قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:١٤١] السبيل إلى القلوب بالحجج، فلا يستطيع الكافر أن يصل بحجته إلى قلب مؤمن أبداً، بل كما قال الله سبحانه وتعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى:١٦] أما السبيل على الأبدان فقد نيل من بعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام، بل قتل بعضهم، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:٢١] فأفادت الآية أن هناك أنبياء قتلوا بغير حق، وأيد ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [النساء:١٥٥] فدلت الآيات على أن هناك أنبياء قتلوا، وأن هناك من يأمر بالقسط من الناس قتل وشرد وطرد وأخرج.

إذاً: السبيل المنفي هو: سبيل الوصول بالحجج إلى قلوب المؤمنين، فدائماً حجة الكفار داحضة واهية.

يقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ) .

أي: سبب انتقام أهل الكفر من المؤمنين ليس لذنب صنعوه إنما هو الإيمان بالله العزيز الحميد.

(إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ، ورد في هذا الباب حديث أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى وهم مشابه لسياق الآيات في سورة البروج، لكن هل هو المراد بالآيات الكريمة أو هو فعل وحدث مستقل تم في ظروف أخر؟ الجواب: من العلماء من نزل الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى من حديث صهيب رضي الله عنه الذي فيه: (كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إن كبرت فابعث لي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه السحر، فكان هذا الغلام إذا ذهب إلى الساحر مر في طريقه براهب، فجلس يستمع إلى الراهب فأعجبه كلامه، فكان الغلام يتخلف عند الراهب كثيراً فيؤذيه أهله ويؤذيه الساحر، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا سألك أهلك: لمَ تأخرت؟ فقل: حبسني الساحر، وإذا سألك الساحر فقل: حبسني أهلي، فمضى على هذا الحال مدة، وذات يوم مرّ هذا الغلام على دابة عظيمة قد حبست الناس ومنعتهم من المرور، فقال: اليوم أعلم أأمر الساحر أحب إلى الله سبحانه وتعالى أم أمر الراهب، فأخذ حجراً وقال: اللهم إن كنت تعلم أن أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة واجعل الناس يمرون، فرمى الدابة فماتت، فمر الناس، فعلم أن أمر الراهب أحب إلى الله عز وجل من أمر الساحر، فازداد تعلقه بالراهب، وكان يداوي الأمراض، فيبرئ الأكمه والأبرص والأعمى بإذن الله، فسمع به جليس للملك كان قد كبر فعمي، فأرسل إليه فجاءه، فقال: إني سمعت أنك تبرئ الأسقام وها أنا قد عميت، فقال: إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله لك فشفاك، فآمن بالله، فدعا الله عز وجل فشفاه، فذهب هذا الرجل إلى الملك، وذهب الغلام إلى الراهب، فقال الراهب للغلام: أنت الآن أفضل مني وإنك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدل عليّ، فذهب جليس الملك إلى الملك، فإذا به قد رد إليه بصره، فقال الملك: من رد إليك بصرك؟ قال: الله.

قال: أو لك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فما زال يضربه ويقرره حتى اعترف له أن الذي فعل به هذا هو الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتشفي العمي، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله سبحانه وتعالى: قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فما زال يضربه ويؤذيه حتى دل على الراهب، فجيئ بالراهب، فقيل له: إما أن ترجع عن دينك وإلا قتلت، فثبت -أي: ثبته الله سبحانه وتعالى- فجيئ بالمنشار فوضع على مفرق رأسه ثم نشر فشق نصفين، ثم جيء بجليس الملك فقيل: إما أن ترجع عن دينك وإلا قتلت، فثبته الله، فنشر بالمنشار نصفين، ثم جيء إلى الغلام، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى أن يرجع عن دينه، فأمر به الملك أن يؤخذ ويرسل إلى أعلى قمة جبل ويلقى من فوقها، فذهبوا به، فاعتصم بالله وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فهلكوا جميعاً، وجاء الغلام يمشي إلى الملك، فقال: ماذا فعل بك؟ قال: أنجاني الله سبحانه وتعالى، فأرسله مع قوم آخرين، وقال: احملوه معكم في قرقور -أي: قارب صغير- وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه في البحر، ففعلوا فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فلعبت بهم الأمواج فأغرقتهم وأنجاه الله وجاء يمشي، وقال: قد كفانيهم الله بما شاء) الحديث، وفي الأخير: (أن الغلام قال للملك: إنك لست بقاتلي إلا أن تفعل ما آمرك به؛ فتجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع نخل، وتستخرج سهماً من كنانتي، وتقول: باسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلب الغلام، وأخرج سهماً من كنانته وقال: باسم الله رب الغلام، فجاء السهم في صدغه فمات، وآمن الناس كلهم أجمعون، قالوا: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام، فقيل للملك: قد وقع ما كنت تحذر، فأمر بالأخاديد فخدت، فشقت الشقوق في الأرض، وأضرمت فيها النيران، وبدأ بقذف كل من آمن فيها، وكان من هؤلاء -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- المرأة التي كانت ترضع طفلاً صغيراً لها، فأشفقت على طفلها بعد أن نظرت إليه نظرة الوداع، فخشيت على طفلها فقال لها ولدها: يا أماه! لا تقاعسي فإنك على الحق، فتقدمت وألقيت في النار) هل هذا هو الوارد في سورة البروج، أم هذه واقعة أخرى؟ من العلماء من نزلها على سورة البروج، وهي بها لائقة.

ومنهم من قال: تعددت أحوال أهل الإجرام.

ومن العلماء من قال: إن أصحاب الأخدود في بلاد نجران التي على الحدود بين اليمن والسعودية، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:٤] أي: لعن هؤلاء الذين خدوا الأخاديد للناس أياً كانوا ومن كانوا.

{النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:٥-٨] فهذا ليس جرماً ينتقم من الشخص من أجله، كما قال القائل: لا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:٨] ، فعلى ذلك: قد يبتلى شخص فيسجن ويقول: ليس عليَّ ذنب، فقل: وما ذنب أصحاب الأخدود؟ وما ذنب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما قال الكفار أو كما حكى الله مقالتهم، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:٣٠] ؟ ما ذنب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إذا قال له قومه: {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} [العنكبوت:٢٤] ؟ ما ذنب لوط وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:٥٦] ؟ فليس لهؤلاء جميعاً ذنب إلا الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:٨] ، (العزيز) : منيع الجناب، عظيم السلطان الذي لا يغالب.

{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:٩] .