للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين.]

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:١٠] هنا يقف الحسن البصري قفة فيقول رحمه الله: (سبحانك ربنا ما أحلمك وما أرحمك! قوم بطشوا بعبادك المؤمنين، وخدوا لهم الأخاديد، وأضرموا فيها النيران وقذفوهم فيها، وتفتح لهم باب التوبة.

{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} دليل على أنهم لو تابوا لقبلت توبتهم، فعلى ذلك: من زلت قدمه في مسألة، فلا ينبغي أن تهدر جميع حسناته بجانب هذه المسألة التي زلت فيها قدمه إن فتح له باب التوبة، فهؤلاء قتلوا الناس وحرقوهم وجلسوا على شفير النيران يتفرجون عليهم، ومع ذلك إن تابوا تاب الله عليهم، وفي عدة آيات من كتاب الله كلما ذكرت كبيرة من الكبائر أو جريمة من الجرائم أتبعت بفتح باب التوبة؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:٦٨-٧٠] قتل، زنى، أشرك، لكن إذا تاب تاب الله سبحانه وتعالى عليه.

قل ذلك لمضيع الصلاة ومتبع الشهوات حتى يتوب، فإن تاب قبلت توبته، وهذه قاعدة أصيلة من قواعد ديننا الحنيف السمح، وهذا من رحمة الله ربنا بنا، كما قال الله سبحانه وتعالى: (يا عبادي! إنكم تخطئون في الليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) ، وفي الحديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) ، وفي الحديث: (إن إبليس قال لربه سبحانه: وعزتك! لا أبرح أغوي العباد ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله: وعزتي! لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني) .

وهكذا فكل من أذنب فليعلم أن باب التوبة مفتوح للتائبين، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:٥٣] فلا ينبغي أبداً أن يقنط أحد من رحمة الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ، (فتنوا) .

أصل الفتنة: الاختبار بالنار، ثم أطلق لفظ الفتنة على كل ما يئول إلى مكروه وسوء، كما قال الشاعر: لئن فتنتي لهي بالأمس أفتنت سعيداً فأصبح قد قلى كل مسلم وألقى مصابيح القراءة واشترى وصال الغواني بالكتاب المتيم.

فالفتنة في الأصل: الاختبار بالنار، ثم أطلقت الفتنة على كل ما يئول إلى مكروه أو سوء.

وتطلق الفتنة على الشرك، وتطلق على الصرف والإضلال {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات:١٦١-١٦٢] أي: بمذلين، {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات:١٦٣] .