للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا)]

قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:١٦] أي: تقدمون وتفضلون الحياة الدنيا على الآخرة، وقيل للدنيا: دنيا، لقرب زوالها، فالأدنى: هو الأقرب، والدنيا: هي القريبة، أي: قريبة الزوال.

{وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا} [الأعلى:١٧-١٨] أي: المذكور في هذه السورة كلها، أو على وجه الخصوص ذكر إيثار الحياة الدنيا موجود مثبت في الصحف الأولى، ففي قوله: (إِنَّ هَذَا) قولان: القول الأول: الإشارة ترجع إلى كل ما ذكر في هذه السورة.

القول الثاني: ترجع إلى أقرب مذكور، وهو: إيثار الحياة الدنيا، أي: أن الخلق يؤثرون الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [القيامة:٢٠-٢١] ، فهذا الشيء بالضبط موجود في الصحف الأولى، ومثبت ومسطر في الصحف الأولى.

ما هي الصحف الأولى؟ {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ} [الأعلى:١٩] ، فدل ذلك على إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم نزلت عليه صحف، كما قال الله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:٣٦-٣٧] أي: وبما في صحف إبراهيم الذي وفى أيضاً.

{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:١٩] موسى صلى الله عليه وسلم ذكرت له صحف، وذكرت له التوراة، وذكرت له الألواح، فهل الألواح والتوراة والصحف الأولى التي نزلت على موسى هي مسمى لشيء واحد؟ هل نقول: إن التوراة هي: صحف موسى وهي الألواح، أم هي ثلاثة أشياء؟ لأهل العلم قولان في هذا الباب، ولا دليل يحكم به في هذه القضية عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى) (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) فالتحذير من إيثار الدنيا على الآخرة ليس موجوداً في شرعنا فحسب، بل هو على لسان الأنبياء عموماً، فهناك أمور يدعو إليها جميع الأنبياء وهناك أمور يحذر منها جميع الأنبياء، فجميع الأنبياء يدعون إلى التوحيد، ويحذرون من الشرك، ويرغبون في الآخرة، ويزهدون في الحياة الدنيا، ويحذرون من المسيح الدجال، كما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي إلا وقد أنذره قومه، ألا وإني أنذركموه: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور) .

هذا، وقد كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يحث على قراءة سورة: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) في الصلوات، ففي صلاة العشاء يقول لـ معاذ: هلا صليت بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) ، وكان يقرأ بها في الركعة الأولى من صلاة الوتر، ويقرأ في الثانية: بالكافرون، وفي الثالثة: بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١] ، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها في الركعة الأولى من صلاة الجمعة، وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ بها أحياناً في العيدين، ويسن أن يقرأ بقصار المفصل في صلاة العشاء، وفي صلاة المغرب على وجه الخصوص، وإن قرأ أحياناً بغيرها فلا بأس، لكن هذا يكون الغالب، كما قال النبي لـ معاذ: (أفتان أنت يا معاذ! هلا صليت بـ (الشمس وضحاها) و (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) و (والسماء والطارق)) ، كما في الروايات، فالأتبع للسنة أن تقرأ سورة من قصار المفصل كاملة في الصلاة، أو تقرن بين سورتين إن شئت، فهذا هو الأقرب إلى اتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن قرأت بغير ذلك جائز ولا إشكال في ذلك، لكن لا يستعرض الإمام عضلاته على المصلين، فإن هناك من الأئمة من يلزم المصلين بطريقته وبحفظه، فهو يحفظ القرآن، ويقرأ لهم مثلاً في صلاة الفجر بعشر آيات من سورة البقرة، ثم في صلاة المغرب يكمل العشر الآيات التي بعدها، وهكذا.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.