للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (عاملة ناصبة، تصلى ناراً حامية)

قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:٢-٤] ، قد يطرح سؤال فحواه: هذه الوجوه الخاشعة: كيف جمعت بين الخشوع بين كونها تصلى النار في قوله تعالى: وبين قوله: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} ؟! المعهود أن من مستلزمات الخشوع أن يأمن العبد، لكن الإجابة: أن الخشوع في الدنيا غير الخشوع في الآخرة، فالخشوع من الله سبحانه وتعالى في الدنيا يتبعه أمنٌ في الآخرة، أما عدم الخشوع لله في الدنيا يتبعه ذلٌ وانكسارٌ في الآخرة، فالخشوع والذل في الآخرة للكفار غير خشوع المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى في الدنيا، فمن كان يسجد لله ويذل نفسه لله سبحانه وتعالى في الدنيا فهو آمن في الآخرة، ومن استكبر عن السجود في الدنيا أذل في الآخرة، كما جاء في حديث صحيح البخاري وغيره: (ويأتي رب العزة سبحانه وتعالى فيكشف عن ساق، أو فيكشف عن ساقه، ويأتي يسجد له كل من كان يسجد له في الدنيا، ويأتي من كان يسجد رياءً وسمعة كي يسجد، فيخر لوجهه طبقاً واحداً، لا يستطيع السجود) ، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:٤٢-٤٣] .

قوله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} يعني: متعبة، ومنه: قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:٧] أي: إذا فرغت من أعمالك الدنيوية ((فَانصَبْ)) أي: فاجتهد واتعب في عبادة ربك سبحانه وتعالى، واتعب في دعاء ربك سبحانه وتعالى، على قول.

القول الثاني: إذا فرغت من الصلاة، ((فَانصَبْ)) أي: فاجتهد في الدعاء بعد الصلاة، وهو قول قتادة، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن خديجة: (إن جبريل بشرها ببيت من القصب لا نصب فيه ولا وصب) .

فالنصب هو: التعب، فقوله سبحانه وتعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} يعني: الوجوه الخاشعة، أو هي وجوه قوم حالهم أنهم يعملون وينصبون، يعملون ويتعبون، فيطرح هنا

السؤال

متى هذا التعب؟ ومتى هذا النصب؟ من العلماء من قال: إن هذا التعب والنصب في الآخرة، يعني: أن أصحاب الوجوه الخاشعة لا يعملون أعمالاً مريحة، وإنما يعملون أعمالاً شاقة مرهقة متعبة، فإن قال قائل: وهل في الآخرة عمل ونصب؟ الإجابة: نعم.

أهل النار ليسوا في سجن وعذاب في النارِ فقط، بل يسميه العامة: أشغال شاقة مؤبدة مضافة إلى السجن الذي هم فيه، وليس كتأبيد الأشغال في الدنيا، بل خالدين مخلدين فيها، فإن قال قائل: ما هذه الأعمال التي يعملوها في النار؟ ف

الجواب

من هذه الأعمال: الصعود والنزول -يعني: يصعدون في النار في جبال وينزلون- كما قال تعالى: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:١٧] ، وكما قال سبحانه: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:١٧] أي: سأتعبه في الصعود، والصعود في الدنيا يتعب، فأنت إذا صعدت بيتاً مرتفعاً أو سلالم مرتفعة تتعب وترهق، فما بالك إذا صعدت في النار؟ إضافة إلى عذاب النار ولهيبها يرهق أيضاً فيها بالصعود، فإن قال قائل: وهل النار فيها انخفاضات وارتفاعات؟ فالإجابة: نعم.

ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه إذ سمع صوتاً، فقال لأصحابه: (أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجرٌ ألقي في النار منذ سبعين خريفاً فلم يصل إلى قعرها إلا الآن) فالشاهد: أن من أنواع العمل؛ العمل المرهق المتعب في النار، وهو: أن يرهق الشخص فيها صعوداً -أي: يصعد في النار- كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:١٢٥] فالذي يصعد في السماء، يتعب ويرهق ونفسه ينيقطع، ففي النار عذاب إضافة إلى كونها ناراً، عذاب الصعود، كما ذكره الله سبحانه وتعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} وقوله: ((يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا)) ، ومن أهل العلم من قال: إن النار من شدة حرِّها ترفعهم فيها وتخفضهم، وهذا أيضاً نوعٌ من العمل، وذلك مثل القدر الذي يغلي بالماء وتحته نارٌ شديدة، فإنك عندما تضع فيه مثلاً بطاطس، فإن البطاطس تصعد إلى أعلى وتنزل ثانيةً، وهكذا تفعل بهم هذه النار الشديدة، ترفعه إلى أعلى ثم يهبط، ثم يرفع إلى أعلى وهكذا، فأحد الأقوال في تفسير العمل الذي يعمله أهل هذه الوجوه الخاشعة أن العمل: الصعود في النار، وقول آخر: إن المراد بالعمل هو: التلاعن الدائم بين أهل النار، فهم فدائماً في سباب وتلاعن، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر:٤٧] الآيات، وكما قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:٣٨] ، ومن هذا العمل أيضاً: الصياح والعويل والدعاء على أنفسهم بالهلاك، كما قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:١٤] ، إلى غير ذلك من الآيات، فمن أنواع العمل: العتاب الزائد، والتلاعن الزائد بين أهل النار، كما قال تعالى أيضاً: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:٢٩] وكما قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:٧٧] ، فمن أهل العلم من قال: إن هذا العمل والنصب يعني: هذا العمل المتعب المرهق يكون في النار، ومن أهل العلم من قال: إن هذا العمل وهذا النصب يكون في الدنيا، فأصحاب هذه الوجوه الخاشعة عملوا أعمالاً وأنفقوا أموالاً طائلة، وعملوا أعمالاً كبيرةً في دنياهم ولكنهم لم ينتفعوا بهذه الأعمال، بل ذهبت هذه الأعمال سدىً، كما قال تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:٦] أي: أنفقت كثيراً من الأموال في عداوة محمد وعداوة المسلمين، وكما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣] ، وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:٣٦] ، وكما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:١٨] ، فمن العلماء من قال: أن هذا العمل والتعب كان في الدنيا لكن لم ينتفعوا بهذا العمل في الآخرة، كما قال جل ذكره: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:١٠٣-١٠٥] ، لكن القول الأول أن هذا العمل والنصب في الآخرة قول أكثر المفسرين، وهو القول الصحيح، لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} بعد قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} فخشوع وجوه أهل الكفر يكون يوم القيامة.

{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} أي: ذليلة ساكنة؛ أسكنها الذل، وأسكنتها جرائمها وشركها بالله، فذلت وانكسرت يوم القيامة.

{تَصْلَى نَارًا} [الغاشية:٤] (تَصْلَى) أي: تذوق، أو ترد، أو تدخل، فكله من معنى {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ناركم التي توقِدون، جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم) .