للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك.]

قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:١] أي: اقرأ مفتتحاً القراءة باسم ربك الذي خلق، على قول بعض العلماء، وعلى ذلك هل تشرع البسملة عند ابتداء القراءة أم لا تشرع؟ هذه الآية مستأنس لمن قال: تشرع البسملة عند الابتداء، ولقائل أن يقول أيضاً ويعزز هذا القول بقوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ذكر الخير الذي أعطاه له ربه سبحانه فخرج مسروراً، فقرأ على أصحابه قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:١-٣] ) فذكر (بسم الله الرحمن الرحيم) بين يدي سورة الكوثر كما في صحيح مسلم.

ثم تتفرع تفريعات، منها: هل البسملة آية أم ليست بآية؟ وقد تقدمت المباحث في ذلك.

قال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:٢] (العلق) : جمع علقة، وهي قطعة الدم المتماسك، وأطلق عليها علقة كما قال فريق من المفسرين: لأنها تعلق بأي شيء تمر به، فهي قطعة دم إذا رميت مثلاً على التراب فإنها تلتقط التراب، وتلصق بالشيء الذي تمر به، وتعلق بها الأشياء.

والعلقة هي الواردة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين نطلقة، ثم يكون علقة مثل ذلك.

... ) الحديث.

وقوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:٢] المراد بالإنسان هنا: بنو آدم، ولا يدخل فيهم آدم عليه السلام، فأحياناً يأتي ذكر الإنسان بمعنى عام، وأحياناً يأتي بمعنى خاص، فقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:١] ، فالإنسان هنا آدم وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:٢] فالإنسان: بنو آدم، فأحياناً يأتي عاماً وأحياناً يأتي خاصاً.

قال الله سبحانه وتعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق:٣] (الأكرم) : الذي يفعل الشيء ولا ينتظر المقابل، كذا فسره بعض العلماء، يفعل المعروف ولا ينتظر جزاءً من أحد.

قال تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:٤] فهو امتنان من الله سبحانه وتعالى على خلقه إذ علمهم بالقلم، فالعلم بالقلم نعمة من الله سبحانه وتعالى على عباده، وهذا الامتنان ذُكر في سورة أخرى، قال سبحانه: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:٣-٤] ، فالبيان بيانان: بيان بالقلم، وبيان باللسان، فالأشياء التي تبين بها ما في نفسك وما في صدرك إما القلم وإما اللسان، ويلتحق بذلك الإشارات.

فالتعليم بالقلم نعمة من الله سبحانه وتعالى على خلقه، وقد أفردت سورة باسم (القلم) ألا وهي سورة القلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صححه بعض العلماء بمجموع الطرق: (أول ما خلق الله القلم، فقال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة) الحديث، فهذا وجه من الوجوه.

فإن قال قائل: لماذا لم ينعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بالتعليم بالقلم؟ ف

الجواب

أن الله أنعم عليه بما هو أعظم وأعز من القلم: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٧-١٩] ، ثم هناك حكمة أخرى ذكرها الله في كتابه في عدم التعليم لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:٤٨] أي: لشك المبطلون، فمن تمام الإعجاز للنبي صلى الله عليه وسلم أنه رجل أمي ومع ذلك يحفظ القرآن كاملاً ويتلوه، ويخبر بما فيه من قصص الأولين وأنباء ما هو آت إلى غير ذلك مما هو في الكتاب العزيز.

فعلى ذلك: التعليم بالقلم منة من الله على خلقه، أما الوارد من الأحاديث في النهي عن تعلم النساء الكتابة فهي ضعيفة جداً، بل بعضها موضوع.

أما قول الشاعر: ما للنساء وللخطابة والكتابة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة فهذا من الأشياء التالفة التي لا يحتج بها ولا كرامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة كانت ترقي: (ارقيها وعلميها حفصة كما علمتيها الكتابة) ، وهناك عمومات يستدل بها في الباب، مثل قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:٩] فهي نصوص عامة يستأنس بها في مشروعية العلم وأفضليته، والله أعلم.

قال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:٥] الإنسان كما قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:٧٨] ، فكل الناس خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، فالعلم بالتعلم، فلا تستحقر نفسك؛ بل أقبل على التعلم والله يوردك علم ما لم تعلم.