للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يومئذ يصدر الناس)]

قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} [الزلزلة:٦] (يصدر) أي: يرجع، ومنه قول الفتاتين: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:٢٣] أي: حتى يرجع الرعاء من السقي، فقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} [الزلزلة:٦] أي: يرجع الناس.

ولكن من ماذا يرجعون؟ فيه قولان للعلماء: أحدهما: يرجعون من موقف الحساب بعد أن حوسبوا، لكن هذا القول يحتاج إلى تقدير في الآية، فالمعنى: يومئذٍ يرجع الناس من موقف الحساب ليروا جزاء أعمالهم، فيكون قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:٦] أي: ليروا جزاء أعمالهم.

فيرجع الناس من موقف الحساب، فمنهم الذي تلقى كتابه بيمينه، ومنهم الذي تلقاه بشماله من وراء ظهره عياذاً بالله، فيتلقون جزاء الأعمال، إما رجل يطير فرحاً، ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:١٩-٢٠] وآخر بائس متبائس اسود وجهه وازرقت عيناه، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} [طه:١٠٢] ، يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٥-٢٩] .

فقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة:٦] أي: أشتاتاً متفرقين من موقف الحساب، هذا راجع في هذا الاتجاه وهذا راجع في هذا الاتجاه.

ويا له من موقف إذا أمعنت النظر فيه وتخيلته وتصورته، كلهم تلقوا الكتاب ورجعوا متفرقين، ثم بعد ذلك ينظمون في جماعات، كل جماعة مع أمثالها وأضرابها، كل أصحاب وجهة مع بعضهم، كما قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر:٧١] ، وكما قال: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:٧٣] أي: جماعات جماعات، فيرجعون من موقف الحساب متفرقين، كل معه كتاب أعماله يرجع حتى يلاقي جزاء العمل وينتظم في سلك أمثاله وأشكاله، إن كانوا صالحين أو كانوا طالحين، كما قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:٢٢] أي: وأمثالهم ونظراءهم، {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات:٢٢-٢٣] .

القول الثاني في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة:٦] أي: يرجع الناس من قبورهم عندما ينفخ في الصور إلى موقف الحساب {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:٦] فكل شيء قد فعلوه أثبت في الزبر، وكل صغير وكبير قد سطر، فيرجعون من القبور إلى موقف الحساب كي يروا أعمالهم، وهنا يرجعون من القبور أيضاً متفرقين كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:٤] وعند خروجهم من القبور لأول وهلة يخرجون متفرقين كالفراش المبثوث الطائش، كل فراشة في اتجاه يركب بعضه بعضاً، وبعد مدة ينظم الركب ويكونون كالجراد المنتشر، فالجراد له وجهة محددة يسير في اتجاهها، أما الفراش الطائش فيركب بعضه بعضاً، والله أعلم.