للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى الطاغوت وأحوال من تحاكم إلى الطاغوت]

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} آمنوا بما: ما هنا بمعنى الذي، {آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} هو القرآن {وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} هو التوراة والإنجيل وسائر الكتب.

وهذه الآية قد يقال: المعني بها أهل الكتاب الذين كانوا يقطنون مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا آمنوا في الظاهر بما أنزل على رسول الله، وآمنوا أيضاً بالكتب الذي نزلت قبل رسول الله، لكن لقائل أن يقول: إنهم أهل النفاق، وهذا القول قوي وهو الأنسب؛ لأن أهل النفاق آمنوا جملة بالقرآن وما جاء فيه ظاهراً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} فقوله تعالى: {يُرِيدُونَ} يعطي حكماً فقهياً فحواه أن الذي يُجبر على التحاكم إلى الطاغوت غير الذي يريد من قلبه أن يتحاكم إليه، فمثلاً: رجل سرق منه مال، ليست أمامه أي حيلة لاستخلاص هذا المال إلا بهذه المحاكم، والمحاكم تحكم بغير ما أنزل الله، فهل يترك المال يضيع أو يذهب ويأتي بماله عن طريق هذه المحاكم؟ هذه حال يختلف صاحبها عن الذي يريد من قلبه أن يتحاكم إلى الطواغيت في كل شئونه، فقوله تعالى: {يُرِيدُونَ} يفرق بين المكره على التحاكم إليها الذي يتحاكم إليها لضرورة ولنازلة حلت به وبين مرتاح القلب الهادئ البال أثناء التحاكم إليها الراغب في التحاكم إليها.

فحينئذٍ لا بد أيضاً لاعتبار إصدار الحكم بالكفر على شخص من مراعاة حاله والحامل له على هذا التحاكم، هل هو إكراه؟ هل هو حبٌ قلبي؟ هل هي نازلة حلت به؟ فليس كل من تحاكم إلى الطاغوت كافراً، فأحياناً يجبر الشخص على ذلك، وأحياناً لا يجبر لكن تأتيه بلية تحمله على ذلك، فالأمر يحتاج إلى تفصيل في تنزيل الأحكام على الأشخاص، ليس كما يفعل بعض الناس إذا رءوا شخصاً في المحكمة حكموا عليه بالضلال والكفر، لا، بل الأمر فيه تفصيل، وكل مسألة تحتاج إلى النظر في ملابستها للحكم في شأن مقترفها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن حاطب بن أبي بلتعة أرسل إلى المشركين يحذرهم من رسول الله يقول ما حاصله: انتبهوا -يا أهل الكفر- فإن محمداً عليه الصلاة والسلام يعد العدة لغزوكم، فأطلع الله نبيه على صنيع حاطب، فأتي به، فقال عمر المحدث الملهم أمام رسول: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله! قد خان الله وخان رسول الله وخان المؤمنين، فالرسول يقول مقولة المعلم الذي يعلم أمته: (يا حاطب! ما حملك على ما صنعت؟) فماذا كان رد حاطب؟ قال ما حاصله: والله يا رسول الله! ما كفرت بعد إسلام، ولا أحببت الكفر، ولكني نظرت -يا رسول الله- فإذا أصحابك الذين هم معك بالمدينة لهم أقارب يخلفونهم بمكة في أموالهم وذراريهم، أما أنا فكنت ملصقاً بأهل مكة لم أكن منهم، فأردت أن أتخذ عندهم يداً - يعني نعمة أقدمها إليهم ومعروفاً أسديه إليهم- يدفع الله بتلك اليد عن ما لي وأهلي الذين تركتهم في مكة، فأردت أن أصنع فيهم معروفاً وجميلاً حتى يحافظوا لي على أموالي وأولادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقكم فلا تقولوا له إلا خيراً) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

ففي قوله تعالى: {يُرِيدُونَ} ما يفيد أن الإرادة من القلب، {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} ، والطاغوت كل من تجاوز الحد في الظلم والطغيان، شيطاناً كان -والشيطان كبيرهم-، أو كان كاهناً أو ساحراً أو حاكماً بغير ما أنزل الله أو غير ذلك، فكل من تجاوز الحد في الظلم والطغيان فهو طاغوت، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:٤٣] ، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:١١] .

((يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)) ومن أهل العلم من قال: إن الطاغوت هنا هو كعب بن الأشرف، فعلى هذا أوّل الآية فقال: كانت طائفة من أهل النفاق ترغب في التحاكم إلى كعب بن الأشرف مع أنها زعمت أنها مؤمنة بالله وما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

((يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)) والأمر بالكفر بالطاغوت وارد في هذه الآية وفي غيرها من الآيات، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦] ، واجتناب الطاغوت متضمن للكفر بكل ما يعبد من دون الله، وكل ما يطاع من دون الله، فيلزم المسلم أن يكفر بكل ما يعبد من دون الله.

فيجب على كل مسلم أن يكفر بكل شرع لم يشرعه الله سبحانه وتعالى، ولم يشرعه رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، فهذه من أصول ديننا ومن المسلّمات، من أصول الدين أن يكفر بكل شرع غير شريعة الإسلام، وبكل كتاب غير كتاب الله والكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:٦٠] ، يضلهم بماذا؟ يضلهم بحملهم على التحاكم إلى الطاغوت، فالآية أفادت أن من تحاكم إلى الطاغوت فقد ضل ضلالاً بعيداً، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} بإغوائهم وسوقهم إلى التحاكم إلى الطاغوت {يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} .