للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)]

ثم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:٧١] وهذه الآية ترد على فرق تواكلت، فرق من الصوفية، وتبعهم على ذلك كثير من الجماعات المحدثة، الذين يخرجون ويتركون أهاليهم وأموالهم، ويهملون تربية أسرهم وتربية أبنائهم بزعم التوكل على الله! فالله يقول للذين آمنوا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:٧١] ، والنبي عليه الصلاة والسلام (كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها) ، يعني: إذا أراد أن يذهب مثلاً في غزوة إلى المشرق البعيد يقول: إني ذاهب إلى المشرق القريب، مثلاً: رجل يريد أن يذهب إلى القاهرة يقول: أنا ذاهب إلى المحلة وهو في طريقه للقاهرة سيمر بالمحلة، فإذا أراد غزوة ورى بغيرها صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن أخذ الحذر أيضاً إرسال الجواسيس الذين يتجسسون على الكفار من قبل أئمة المسلمين، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم الأحزاب: (من يأتيني بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا يا رسول الله! قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا يا رسول الله! قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن لكل نبي حواري، وحواريي الزبير بن العوام) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة) فجاء سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا -كما قال بعض أهل العلم- قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:٦٧] ، وكانت هذه خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكن جاء الخلفاء من بعده واتخذوا الحجبة يحجبون عنهم أهل الظلم وأهل الإجرام وأهل الفساد، ويحفظون لهم أوقاتهم، فكان لأمير المؤمنين عمر حجبة، كما قال عيينة بن حصن لابن أخيه الحر بن قيس: استأذن لي على هذا الأمير كي أدخل عليه، كما في صحيح البخاري، فأخذ الحذر مطلوب أمر الله تبارك وتعالى به، وبعد ذلك الذي في علم الله سيتم، ويؤيد هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اعقلها وتوكل) ، فينبغي للمسلم أن يأخذ بالأسباب التي شرعها الله تبارك وتعالى، ويدع الأمور بعد ذلك إلى الله، ويعتقد أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله تبارك وتعالى له، لكن الأخذ بالأسباب أمر مشروع بل واجب أمر به الله، وفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفعله الخلفاء من بعده، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يرتب الجيوش ويرسل الجواسيس على أهل الكفر ليأتوه بالأخبار، ويذهب هو عليه الصلاة والسلام بنفسه يتحسس أهل الفساد وأهل الشر، كما في قصة ابن صياد الذي ذاع خبره في مدينة رسول الله عليه الصلاة والسلام، واشتهر بين الناس أنه المسيح الدجال، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه وهو يتقي جذوع الشجر، حتى وصل إلى ابن صياد وهو نائم؛ حتى سمع النبي صلى الله عليه وسلم همهماته وهو نائم، فقالت أم ابن صياد: يا صافي! هذا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تركته بيِّن) ، فأخذ منها بعض الفقهاء مشروعية التجسس على أهل الريب والفساد، كالمروجين مثلاً للمخدرات أو المروجين للأشرطة التي تبث الدعارة والفسق والفجور، فهؤلاء هم الذين ينبغي أن يتجسس عليهم؛ حتى يعلم حالهم وحتى يفشو أمرهم، لا على العابدين التائبين الراكعين الساجدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

وقوله تعالى: {فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:٧١] أي: انفروا فرادى أو انفروا مجتمعين، أو فرقة فرقة أو كلكم معاً، انفروا ثبات لمجابهة العدو أو انفروا جميعاً، وهذا يراه إمام المسلمين، إن شاء أن يرسل سراياه سرية سرية أرسل، وإن شاء أن يرسل عيوناً فرادى فرادى أرسل، وإن شاء أن يرسل الجمع كلهم لمجابهة أعداء الله فعل، فهذا الأمر إلى إمام المسلمين هو الذي يأمر بذلك.

{فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} [النساء:٧١] .