للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الحكم بين الناس عمومه وخصوصه، وبماذا يكون عند العموم؟]

قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) .

هل المراد بـ (الناس) العموم، فيدخل فيه الكفار واليهود والنصارى، فإذا حكم بينهم أو فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم فيهم بالحق، أم المراد بالناس أهل الإيمان؟

الجواب

أن (الناس) لفظة عامة، ولكنها أحياناً تأتي مخصوصة بأقوام، كقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:١٧٣] ، فتضمنت هذه الآية الأخيرة ثلاثة أصناف، فالمقول لهم ناس، والقائلون ناس، والذين جمعوا لهم ناس.

فعلى القول بالعموم يكون معنى قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس) ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم أيضاً بين اليهود والنصارى بما أراه الله سبحانه وتعالى، فتأتي مسألة فقهية: هل الحاكم يحكم بشريعة الإسلام في اليهود والنصارى أيضاً، أم أنه يحاكمهم بشرعتهم؟ وهل يلزمه أن يحكم بينهم، أو هو مخير بين الحكم والترك؟ في الباب: قول الله تبارك تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة:٤٢] فهذه الآية وهي قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) تخير رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يحكم بينهم إن شاء، أو يعرض عنهم إن شاء، ثم جاء بعدها قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:٤٩] ، فمن العلماء من قال: إن الأخيرة نسخت الأولى، وأصبح لزاماً إذا تحاكم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، أو إلى الحاكم قوم من أهل الكتاب أن يحكم بينهم.

وقد ورد في ذلك حديث المرأة والرجل اليهوديين الذين زنيا، فقال قومهم: نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فنسأله عن الحكم فيهما؛ لأن اليهود كانوا قد غيّروا حكم الله الذي هو الرجم وبدلوه إلى التحميم لما كثر الزنا في أشرافهم، فكان الحد يقام على الوضيع دون الشريف، فاصطلحوا فيما بينهم -أي: اليهود- على شريعة وعلى قانونٍ للزاني والزانية ألا وهو التحميم، فقالوا: إن من زنا يؤتى به وبالمرأة التي زنا بها ويركبان على حمار ظهره لظهرها ويحممان، ومن العلماء من قال: يطليان بالسواد، ويطاف بهما في الأسواق، وهذا ليس من شريعة الله سبحانه وتعالى إنما شيء اصطلح عليه اليهود في شأن الزناة.

فلما زنا رجل وامرأة منهم قالوا: نذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإن رخص لنا اعتذرنا إلى ربنا بأن نبياً من أنبيائك قال: ليس عليهما رجم، وإن لم يرخص لنا لم نطعه، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أناشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة بشأن الزناة؟ ، فقرأ أحدهم ما في التوراة ووضع يده على آية الرجم -كما في سنن أبي داود - فقال له عبد الله بن سلام رضي الله عنه-وكان عالماً من علماء اليهود وقد أسلم-: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي آية الرجم مثبتة، فحكم عليهما النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم) ، فالحاصل: أنهم أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم بينهم.

وقوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ... ) ليس المراد به أن القرآن نزل ليحكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل نزل للحكم به، وللتذكير به، وللتحذير به، ولبيان خبر ما سلف، وخبر ما هو آت.

إلى غير ذلك، كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:٤٥] وغيرها من الآيات.

إذاً: قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) أي: بما شرعه الله سبحانه وتعالى لك، وبما أوضحه الله عز وجل لك، (وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) أي: مخاصماً مدافعاً عنهم.