للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ... ) ومن يراد به

قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:١٠٦] أي: إن كانت زلت قدمك أو لم تزل في مسألة فاستغفر الله إنَّ اللَّه كان غفورًا رحيمًا.

إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستغفر الله فغيره كذلك يؤمر أن يستغفر الله، وهذا هو دأب أهل الصلاح أنهم يكثرون من الاستغفار ويتواصون به، فقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (علمني شيئاً أدعو به في صلاتي يا رسول الله! قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) ، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل ما تدعو به في ليلة القدر، فقال لها: (قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني) فهذا شأن أهل الصلاح، في حياتهم وعند اقتراب وفاتهم، فنوح عليه السلام لما أقر الله عينه بإغراق القوم الظالمين، قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:٢٨] وقال الله لنبيه محمدٍ عليه الصلاة والسلام -والناس له تبع-: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:١٠٦] .

إن قال قائل: هل يصدر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذنب دون الكبيرة؟ أو هل يصدر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كبائر ابتداءً؟ ف

الجواب

أن أهل العلم من أهل السنة والجماعة متفقون على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في تبليغ الشريعة، فإذا بلغوا عن الله شيئاً فهم معصومون في أثناء هذا البلاغ لا يخطئون فيه أبداً، ولا يهمون، وإنما أقوالهم كما قال تعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣-٤] .

وأما صدور الذنوب منهم فمن العلماء من أجاز ذلك، واستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم -والنص عام- نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها الخطو، واللسان يزني وزناه الكلام، والأذنان تزنيان وزناهما الاستماع، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:١-٤] .

واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد قبوله الفدية من أسارى بدر نزل عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:٦٧-٦٨] فقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (لقد عرض علي عذاب أصحابي أدنى من هذه الشجرة، ولو نجا منا أحد لكان أنت يا ابن الخطاب) ، فبناءً على هذا قال بعض أهل العلم بجواز الصغائر على الأنبياء.

أما ما ورد في قصة موسى عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه:٤٠] فكان ذلك قبل أن يبعث موسى صلى الله عليه وسلم، وعقب ذلك خرج موسى عليه السلام إلى مدين وبقي فيها الثمان أو العشر سنين على الأصح، ثم اتجه بعدها راجعاً إلى مصر فنزل عليه قوله تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:١٣] عند طور سيناء كما قال فريق من أهل العلم.

فقوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ) من العلماء من قال: استغفر الله من اللمم أو من بعض الران، ومنهم من قال: هذا وإن كان خطاباً لرسول الله عليه الصلاة والسلام إلا أن المراد به أمته؛ إذ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوه.

أحدها: أن يكون المخاطب هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به هو نفسه فقط، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:٥٠] فقوله تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاص به.

الثاني: خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به هو وأمته، مثل قوله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:١] ، فهذا يراد به هو عليه الصلاة والسلام، ويراد به أيضاً أمته.

الثالث: أن يكون الخطاب لرسول الله ويراد به أمته خاصة، كأنواع الخطاب التي فيها الوصية بالوالدين، فَأَبَوَا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانا قد ماتا قبل بعثته عليه الصلاة والسلام.

ومما استدل به على جواز الصغائر في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: ما جاء في قصة آدم عليه الصلاة والسلام وهو قوله تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:١٢١-١٢٢] ونحوه قوله تعالى في قصة سليمان صلى الله عليه وسلم: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:٣٢-٣٣] .

ومن العلماء من منع ذلك تماماً، وقال في قوله تعالى: (وَاسْتَغْفِرِ الله) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به أمته، وإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستغفار فإنما ذلك لرفع درجته وإعلاء منزلته، وتعليم أمته عليه الصلاة والسلام.