للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ.)

قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} [النساء:١٢٣] .

أي: ليس الأمر على ما تظنون، {وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:١٢٣] ما هو الذي ليس بأمانينا ولا بأماني أهل الكتاب؟ هنا حذف دلّ عليه السياق.

{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:١٢٣] .

أي أنكم ستفعلون السوء ولا تجزون به، بل {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣] وقد ذكر فريق من أهل العلم أن هنا حذفاً فُهم من السياق، والحذف إذا فهم من السياق استسيغ، وكان له وجه وعليه أدلته في كتاب الله في جملة مواطن قد مثلنا لذلك يقول تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:٣٢] ما هي التي توارت؟ الشمس، {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:٣٣] ردوا ماذا؟ ردوا الخيل: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:٣٣] .

وقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:١] ، لماذا قال: (وشاء) ؟ لأن التمثيل به أتم.

قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء:١٢٣] أي: ليس الأمر على ما تظنون أنتم وأهل الكتاب، بل (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ، وردت في هذه الآية أحاديث -منازع في صحتها- أن هذه الآية شقت على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الآية أفادت: أن كل من يعمل سوءاً يجز بهذا السوء: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) وفي هذه الأحاديث التي أشرنا إلى أنه اختلف فيها، قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر: (يا أبا بكر! ألست تنصب؟) يعني: تتعب، فالتعب يزيل السيئات، ألست تحزن؟ فالهم والحزن يزيلان السيئات، ألست تصيبك اللأواء؟ اللأواء والأدواء والأمراض تذهب السيئات، وفي معنى هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (ما من مسلم يصيبه أذىً من مرض فما سواه إلا حط الله به من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها) ، وفي رواية: (حتى الشوكة يشاكها) ، وفي رواية -نوزع في تصحيحها-: (حتى الهم يهمه) ، يعني: الهم الذي تصاب به يهيل السيئات، لكن روايات الهم منازع في صحتها.

وأيضاً يقال: إن الآية أفادت: أن أي شخص يعمل سوءاً يجز به، لكن ثَمَّ آيات قيدت، وثَمَّ آيات رفعت الحرج، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠] ، فـ (يعفو عن كثير) أفادت أن هناك من الذنوب ذنوباً لا نؤاخذ بها، كذلك في قول أهل الإيمان: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} [البقرة:٢٨٦] ، قال الله: قد فعلت.

قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣] ، لابد أيضاً من النظر فيه بعيداً عن مسألة إزالة الأمراض والهموم والأحزان للذنوب، فهل يلزم أن كل من أذنب تأتيه عقوبة من الله، إما في صورة شوكة يشاكها أو مرض يمرضه أو هم؟ الصحيح: أنه لا يلزم ذلك، فإن قيل: فكيف توجهون الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فالإجابة، أن هنا تقديرٌ يفهم من السياق ومن العمومات الأخرى التي تحملنا على هذا التقدير، فيكون التقدير: (من يعمل سوءً يجز به) إلا إذا عفا الله عنه، وهذا المعنى يستقيم مع قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] ، ويستقيم مع قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠] ، فالتقييد يجز به، إلا إذا عفا الله عنه: فإذا عفا الله عنه وإلا كان الأمر كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧-٨] ، فعلى هذا تضبط الآية من وجهين: الوجه الأول: هو ما ذُكر في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، على قول من صححه، وهو أن الهموم والأحزان والأمراض كفارات.

القول الثاني: أن الآية مقيدة بمغفرة الله عز وجل، وثمة قول ثالث -لكن يحتاج إلى إثبات- وهو القول بالنسخ، وأن الآية منسوخة بآيات أخرى، أفادت عفو الله عز وجل عن كثير من الذنوب، لكن القول بالنسخ لا يتأتى إلا بعد معرفة المتقدم من المتأخر، وهذا غير متيسر هنا.

{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣] ، من العلماء من يقول: إن الشخص قد يعد، وقد يوعد فهناك الوعد والوعيد، ومن خصال الكرام: الوفاء بالوعد وإخلاف الوعيد.

ومنه قول القائل: وإني إن وعدته أو أوعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالوفاء بالوعد محمود، وإخلاف الوعيد محمود من فعل الكرام.

والفرق بين الوعد والوعيد: أن الوعد في الخير والوعيد في الشر والتهديد، والله تعالى أعلم على ذلك فالذي يخلف وعيده لا يذم من البشر، ولله المثل الأعلى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:٢٧] ، قال الله تبارك وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:١٢٣] ، والسوء هو من ما يسيء الشخص، وكل المعاصي تسيء صاحبها يوم القيامة، ومنه قيل: للسوأة سوء، وللسوأتان سوأتان؛ لأن رؤيتهما تسيء للشخص المرئي، فلذلك أطلق عليهما (سوأتان) .

قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء:١٢٣] ولياً يتولاه، ولا نصيراً ينصره.

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:١٢٤] أي: قدر النُّقْرَةِ في ظهر النواة.