للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ.)

قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} [النساء:١٤٩] ، وختام الآية بقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} : فيه إرشاد إلى العفو، وإلى سلوك سبيل العفو، فختم الآية ببعض الأسماء الحسنى لله سبحانه وتعالى له مدلول.

وختمها بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) أي: اعفوا أيها الناس فإن الله عفو، فلله صفات يحب أن تكون في عباده، وصفات لا يحب أن تكون إلا له وحده سبحانه وتعالى، ومن الصفات التي يجب الله أن تكون في عباده أنه: كريم يحب الكرم، رحيم يحب من عباده الرحماء، عفو يحب من عباده العافين عن الناس.

ومن الصفات التي لا يحبعل لهم أنه: جبار لا يحب لعباده أن يكونوا جبارين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته) .

ومن صفات الله التي يحب أن تكون في العباد، أنه جميل يحب من عباده التجمل: (إن الله جميل يحب الجمال) وهكذا.

فصفة العفو يحبها سبحانه وتعالى في العباد، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة، قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) .

فعلى هذا فمعنى هذه الآية: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:١٤٨] : أنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول إن ظلم، وإن عفا فهو خير له؛ لأن الله عفو، فالآية أرشدت إلى معنى متكرر في عدة آيات نسوق منها ما تيسر، وكلها تدور على تأصيل القاعدة الكامنة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} [النحل:٩٠] .

العدل: هو أن تنتصر بقدر مظلمتك.

والإحسان: أن تعفو.

وهناك أقوال أخرى في تفسير العدل والإحسان، لكن في هذا الموضع العدل: هو الانتصار بقدر المظلمة، والإحسان: العفو، أي: إذا ضربك شخص فالعدل أن تضربه كما ضربك، والإحسان أن تعفو عنه، وإذا تكلم شخص في عرضك جاز لك أن تتكلم في عرضه بالقدر الذي تكلم به فيك، والعفو أفضل، ومن أدلة ذلك: - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان} [النحل:٩٠] ففيه إرشاد إلى الإحسان.

- ومنها قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:٤٠] عدل، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:٤٠] إحسان.

- ومنها قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} [الحج:٦٠] عدل، {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} [الحج:٦٠] الشاهد هو العفو {غَفُورٌ} [الحج:٦٠] فهو إحسان.

- ومنها قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:٤٥] كله عدل، {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:٤٥] إرشاد إلى التصدق والعفو، فهو إحسان.

فهذا المعنى ثابت في عدة آيات، فإن الله يأمر بالعدل، وبعد أن يأمر بالعدل يرشد إلى الإحسان، فإن تكلم في عرضك فالأفضل لك والأكمل أن تترك الكلام في عرضه فهو خير لك، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى ما حاصله: إن الله عز وجل قال: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج:٦٠] ، فإذا شتمك أحد أو سبك فشتمته وسببته بقدر ما سبك به وشتمك به، ثم اعتدى عليك بعد ذلك، فالله وعد أنه سينصرك، قال: فمن باب أولى الذي ترك حقه كله لله.

أي: إذا كنت قد انتصرت فسينصرك الله، وإذا تركت حقك كله لله فأنت تستحق مزيداً من نصر الله عز وجل لك، فالآية وإن رخصت للمظلوم أن ينتصر بقدر مظلمته لكنها أرشدت إلى العفو، فهو خير وأفضل.

قال الله سبحانه: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:١٤٨] ، قال بعض المفسرين: كنت في بلدة إذا سمعنا عن شارب للخمر استنكرناه جميعاً في القرية، وإذا سمعنا عن قاتل ضربته كل القرية، فلما انتقلنا إلى بلاد يباع فيها الخمر في الطرقات قلّت كراهيتي لصاحب الخمر شيئاً فشيئاً حتى تكاد تتلاشى؛ لكثرة شيوع شرب الخمر.

فكذلك الكلام على الحوادث في صفحات الصحف ومجلة الحوادث برمتها، إذا قرأت فيها اليوم عن رجل زنى، فيأخذك الغضب وتأخذك الغيرة؛ لأن هذا زنا، فإذا استمرت هذه الصفحة على هذه الوتيرة شهراً كاملاً، كل يوم فلان زنى، قلّت كراهيتك للزاني، وأصبح الخبر عادياً، فيعمد الشياطين إلى الانتقال إلى شيء آخر، وهو: فلان زنا بمحرم من محارمه، فتستبشع الحادثة لأول وهلة، فيضربون على هذا الوتر شهوراً وسنوات إلى أن تصبح شيئاً عادياً عندك، فيأتون بطامة أكبر: فلان زنى في الطريق أمام الناس، فتستبشع ذلك أولاً ثم بعد ذلك يهون، فهكذا تروج هذه الصحف الفواحش والعياذ بالله.

{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} [النساء:١٤٩] أي: عنكم إذا عفوتم، {قَدِيرًا} [النساء:١٤٩] أي: على الانتصار ممن ظلمكم.