للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[توسل إخوة يوسف برد أخيهم]

{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} [يوسف:٧٨] ، وهذا فيه جواز إطلاق العزيز على بعض البشر، وهناك أسماء لله يجوز إطلاقها على بعض البشر، مع أن الفارق بين الاسم والمسمى كالفارق بين الخالق والمخلوق.

فالعزيز -على سبيل المثال- اسم من أسماء الله، وأطلق هنا العزيز على عزيز مصر فقالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ} [يوسف:٧٨] ، وكذلك المؤمن اسم من أسماء الله، وأطلق الله على عبادة المؤمنين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن، فأخبروني ما هي؟) ، وربنا هو الأعلى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:١] ، وقال الله لموسى: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} [طه:٦٨] ، وهناك أسماء لله يتسمى بها ربنا لا يشاركه فيها غيره، كلفظ الجلالة: (الله) كما قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:٦٥] ، على الوجهين من أوجه التأويل، أي: هل تعلم أحداً تسمى (الله) ؟ أو هل تعلم له شبيهاً أو نظيراً؟ وكذلك الاسم الآخر: (الرحمن) فلا يتسمى شخص أحد بـ (الرحمن) ، ولما تشدق مسيلمة الكذاب ولقب نفسه برحمان اليمامة، فكان دائماً يوصف بالكذاب، فلا يقال إلا: مسيلمة الكذاب.

{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف:٧٨] ، توسلوا بشيخوخة أبيهم إلى يوسف عليه السلام، فالكبير كان له حق، وما زال له حق، فقد جاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الأصغر منهما يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبِّر كبِّر) ، يعني: أن الأكبر هو الذي يتكلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيتني الليلة أتسوك بسواك، فجاءني رجلان فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبِّر كبِّر) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) ، أي: ليس على طريقتنا ولا على أدبنا هذا الشخص الذي لا يوقر الكبير، فللكبير حق.

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن؛ أخبروني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فأردت أن أتكلم فنظرت فإذا شيوخ القوم -وفي رواية: فإذا أنا أصغر القوم- فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) ، فانظر إلى حياء ابن عمر أن يتكلم بحضرة كبار السن رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فعلينا أن نتأدب بهذا الأدب مع الكبار، فكم صلى هذا الكبير لله من صلاة، وكم ركع لله من ركعة، وكم سجد لله من سجدة، وكم ابتلي فصبر فأجر على صبره، وكم سبح من تسبيحة، وكم كبر من تكبيرة وهلل من تهليلة! فجدير بنا معشر الإخوة! أن نوقر كبار السن، وأن ننزلهم منازلهم اللائقة بهم، فهذا هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فلنتأدب بأدب نبينا محمد عليه أفضل صلاةٍ وأتم تسليم.

قال الله سبحانه وتعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف:٧٨] ، حفاظاً على الميثاق الذي واثقوا به أباهم، {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:٣٦] ، فعلامات الإحسان ظاهرة وبادية على يوسف عليه السلام، على وجه هذا الكريم الحليم العفيف عليه الصلاة والسلام علامات الإحسان بادية على وجه هذا المظلوم الذي رفعه الله سبحانه.

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:٧٩] ، نعوذ بالله أن نظلم ونأخذ أحداً مكان أحد، فلا يصح هذا ولا يعقل، إن الله قال في كتابه الكريم: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:٣٦-٣٧] ، ماذا في صحف موسى؟ وماذا في صحف إبراهيم الذي وفى؟ قال تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:٣٨] ، فلا يؤخذ شخص بجريرة شخص آخر، {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:٣٨-٣٩] {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:١٦٤] ، فما بال شخص يقتل آخر بريئاً من أجل شخص آخر، فلا يصح ولا يجوز، يعلمنا هذا نبي الله يوسف صلى الله عليه وسلم؛ فقد أمرنا بالاقتداء به كذلك.

{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف:٧٩] ، ولم يقل: أن نأخذ إلا من سرق، لكن قال: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:٧٩] ، أترضى لنا بهذا الظلم نأخذ شخصاً بريئاً ونترك مرتكب الجريمة؟ إنا إذاً لظالمون، لا يصح ولا يليق أبداً أن يؤخذ البريء ويترك المتهم، لا يؤخذ البريء ويترك الجاني، أي شرع هذا؟ فحاولوا معه وحاولوا، ولكن لم تجدِ المحاولات معه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم تجد محاولة من أراد أن يلقي ببريء مكان متهم.