للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خروج يوسف لاستقبال أهله أحسن استقبال]

أخذ بعض العلماء من قوله: (ادْخُلُوا مِصْرَ) أن يوسف عليه السلام لم يجلس في مكانه حتى دخل عليه أبواه، إنما خرج مستقبلاً لهم خارج المدينة لإكرام العشيرة والآباء والإخوة والأهل، فلم يجلس على كرسي العرش حتى يأتي أبوه ويدخل عليه وهو على الكرسي، إنما خرج إلى مصر مستقبلاً أبويه وإخوته وأهل بيته أجمعين.

فإن قال قائل: قوله: ((فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ)) قد يفيد غير ذلك.

ف

الجواب

أنه قد ينصب ليوسف عليه السلام سرادق ونحوه خارج مصر، ثم يأتي آباؤه وإخوته فيدخل معهم جميعاً إلى مصر، وهذا وجه حسن من أوجه الجمع.

والشاهد من ذلك: أنه يؤخذ منه إكرام العشيرة، {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} .

استقبلهم أحسن استقبال، ولم يتنكر لهم كما يتنكر كثير من المخذولين في أزماننا، فثم مخذولون إذا أولاهم الله مناصباً، أو أولاهم الله جاهاً، أو أعطاهم الله مالاً يستنكرون لقبائلهم وعشائرهم؛ بل قد ينكر بعضهم أباه وأمه، فثم طبيب أفنت أمه حياتها في خدمته وفي الإنفاق عليه، وباعت متاعها وذهبها وأثاث بيتها إنفاقاً عليه في دراسته، ثم بعد أن تخرج طبيباً إذا به يستنكر أمه، تأتيه إلى المستشفى التي هو بها كي تتعالج عنده فيقول لها: ما اسمك أيتها السيدة؟! وكأنها امرأة غريبة لا يعرفها؛ لكونها أتت إليه محجبة مرتدية ثياباً طيبة سابغة؛ ساترة لجسمها وبدنها، ولكن كان يريد منها أن تأتيه متبرجة حتى يفتخر بها أمام زملائه!! فأي تنكر للعشائر أشد من هذا التنكر؟! وأي خذلان أشد من هذا الخذلان؟! ففرق بين رجل صالح قلده الله منصباً فأتى إليه رجل من بلدته إلى مكتبه فقام بإكرامه وإنزاله منزلته اللائقة به، وبين شخص منكر لأبويه وعشيرته.

فيوسف عليه السلام كان من الصالحين، وهو يعلمنا كيف يكون الأدب مع العشائر والإخوان.

{ادْخُلُوا مِصْرَ} [يوسف:٩٩] ، وهي مصرنا هذه، {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ، هكذا يقول يوسف عليه السلام لأبويه ولإخوته، ولم يكتف بإدخالهم وتكريمهم واستقبالهم الحسن؛ بل قال كما قال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:١٠٠] ، أي: أجلسهم معه على سرير الملك، وهو أعلى مكان في القصر، فهكذا ننزل الآباء منازلهم اللائقة بهم، لا نتنكرلهم ولا نهضمهم حقوقهم؛ فللآباء حق ذكره الله تعالى بعد حقه في الكتاب العزيز: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:٣٦] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:٢٣] {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام:١٥١] .

(أي الذنب أعظم يا رسول الله؟! قال: الشرك بالله، ثم أي يا رسول الله؟! قال: عقوق الوالدين) ، هكذا يظهر حق الآباء، ويوسف النبي الكريم يعرف هذا تمام المعرفة.

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف:١٠٠] ، بإذن الله، فقد كان سجوداً مشروعاً في شريعتهم، وهو سجود تحية، وقد نسخ في شرعنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها) ، فمنع سجود التحية في شرعنا، ولكن قال تعالى في شأن يوسف عليه السلام: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} .