للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نزول النصر على الرسل عند تكذيب الأمم]

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف:١١٠] ، هنا قراءتان: وهل هي: (كُذِبُوا) مخففة، أم (كُذِّبُوا) مشددة؟ فـ عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تستنكر القراءة (كُذِبُوا) بالتخفيف، وتقول: بل (كُذِّبُوا) ، وتقول: معاذ الله أن تظن الرسل بربها ذلك! أما ابن عباس رضي الله عنهما فكان يقرأ: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) مخففة، يقول ابن عباس: كانوا بشراً، ويتلو قول الله تبارك وتعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:٢١٤] .

ومن العلماء من التمس تأويلات فقال: ظنت الرسل أن قومها قد كذبوها، فكل رسول ظن أن قومه قد كذبوه لما استبطأوا وعد الله بالنصر.

فثَم وجوه في هذا التأويل، وحاصل ذلك كله: أن الأمر اشتد على المرسلين شدة شديدة، وتأخر النصر عليهم تأخراً شديداً شق على بعضهم مشقة بالغة، حتى إن نوحاً عليه السلام يقول الله في شأنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:١٠] ، فإلى أي حد وصل الأمر بنوح عليه الصلاة والسلام حتى ينادي ربه عز وجل قائلاً: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:١٠] ؟! إلى أي حد يصل الأمر بنوح إلى أن يقول هذا القول صلوات الله وسلامه عليه؟! فالشاهد: أن الرسل عليهم السلام بذلوا جميع ما في وسعهم، ولم يقصروا صلوات الله وسلامه عليهم؛ بل بذلوا الجهد كل الجهد، وتأخر النصر عليهم لحكمة يعلمها الله، وإلا فالله قادر على الانتصار لهم قادر على إهلاك عدوهم لأول وهلة، ولكن كما قال تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:٤] ، أي: من الكفار، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:٤] ، فمن ثَم لا يستبطئ الدعاة إلى الله نصر الله تبارك وتعالى، فإن الله وعد به: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:٥١] {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:٢١] {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:١٧٣] .

فوصل الأمر بالرسل عليهم الصلاة والسلام إلى أن ظنوا بأقوامهم أنهم قد كذبوهم، ومن العلماء من يقول: إن الرسل بشر حدثتها أنفسها بما شاء الله أن تحدث، لكنهم لم يظنوا أن الله يخلف الوعد، فالرسل أبعد الناس عن ذلك الظن بالله سبحانه وتعالى.