للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى: الاستئناس]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) خطاب لأهل الإيمان الذين هم: أهل التصديق بالله، وبرسل الله، وبكتب الله، وبملائكة الله، وبالغيب، يا من هذه صفتهم! {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} [النور:٢٧] سماها الله بيوتاً، ولم يسمها فللاً، إنما هي بيوت.

قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:٢٧] ، ما معنى تستأنسوا؟ من العلماء من قال: إن (تستأنسوا) بمعنى: تستأذنوا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أخطأ النساخ! إنما هي: تستأذنوا، ودفع قول ابن عباس رضي الله عنهما جماهير أهل العلم، واستدلوا على تخطئة قوله بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩] ، وبقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢] ، وبقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٧-١٩] ، وابن عباس نفسه فسَّر الآيات الأخيرة بقوله: إنّ علينا أن نجمعه لك في صدرك، ثم إنّ علينا أن نبينه، فاستدل بذلك وبإجماع القراء على أن الآية: (حتى تستأنسوا) كما نقله البعض، وعلى تخطئة القول بأن النساخ قد أخطئوا.

على كلٍ فمن العلماء من قال: معنى (تستأنسوا) تستأذنوا، ومنهم من قال: هو الاستئذان بتنحنح ونحوه من الكلمات والهمهمات والأصوات التي بها يعرف الداخل.

ومن العلماء من قال: إن الاستئناس بمعنى: الاستعلام، أي: حتى تستعلموا، أي تعلموا من فيها بدخولكم، وأخذ هذا من قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:٦] .

أي: إن علمتم منهم رشداً، وقول موسى صلى الله عليه وسلم: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه:١٠] هو بنفس المعنى.

ومن العلماء من قال: إن الاستئناس هو مقابل الاستيحاش، فالشخص يقول مثلاً: دخلت مكان كذا وكذا فاستوحشته إذا لم يجد من يأنس إليه، فهو من الأنس الذي هو ضد الاستيحاش.

فهي ثلاثة أقوال: فمن العلماء من قال: إن الاستئناس هو الاستعلام، وقيل: هو الاستئذان، وقيل: هو ضد الاستيحاش.

{وَتُسَلِّمُوا} [النور:٢٧] السلام هنا المراد به: سلام الاستئذان، وهو المراد أيضاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان إذا سلم سلمّ ثلاثاً، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً) .

فالمراد بقول الراوي: (كان النبي إذا سلم سلّم ثلاثاً) ، سلام الاستئذان، وليس معناه أنه إذا التقى بشخص في الطريق يقول: السلام عليكم، السلام عليكم، السلام عليكم! إنما المراد: سلام الاستئذان، دل على ذلك حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: (أنه أتى إلى أمير المؤمنين عمر يستأذن عليه، فقال: السلام عليكم، فلم يأذن له، ثم قال: السلام عليكم أنا عبد الله بن قيس، فلم يأذن، ثم قال: السلام عليكم، فلما لم يؤذن له في الثالثة انصرف، فأرسل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه في أثره من يطلبه، فأتي به، فقال له: ما منعك أن تثبت، قال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) ، قال عمر: لتأتيني على هذا ببينة أو أوجعتك ضرباً، فرجع أبو موسى مذعوراً إلى مجلس الأنصار وفيهم أبي بن كعب وهو من سادات الأنصار، فقال: من يشهد لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) ، قال أبي: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا! قم يا أبا سعيد! فقام أبو سعيد فشهد عند عمر بذلك، فقال عمر رضي الله عنه: ألهاني الصفق بالأسواق! فدل ذلك على أن المراد بالسلام هنا سلام الاستئذان، ونحو ذلك الحديث الذي يحسن بمجموع طرقه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى بيت سعد بن عبادة رضي الله عنه، فسلم النبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم ورحمة الله، فرد سعد بن عبادة سراً ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادها النبي مرة ثانية، فرد سعد سراً، فأعادها النبي ثالثة فردها سعدٌ سراً، وبنوه بجواره يقولون له: ائذن للنبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: دعوه حتى يكثر علينا من السلام، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يؤذن له بعد الثالثة، فتبعه سعدٌ وقال: والله يا رسول الله! ما من مرةٍ سلمت فيها عليّ إلا رددت عليك السلام، ولكني لم أُسْمِعك حتى تكثر علينا من السلام) ، فالشاهد منه: أن السلام هنا يراد به سلام الاستئذان، وأنه يكون ثلاثاً.

ومن معاني الاستئناس أيضاً: التجول بالبصر في الغرفة وفي البيت، كما في حديث عمر عندما استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أذن له بالدخول -كما في الصحيح- قال: أأستأنس يا رسول الله؟! فأذن له النبي بالاستئناس، فجال ببصره في الغرفة، قال: فلم أجد شيئاً يرد البصر إلا ثلاثة أهبٍ، وحفنة من شعير، وذكر الحديث، فلما كان الاستئناس بعد السلام حمل هذا بعض العلماء على أن يقولوا: إن المراد بالاستئناس الاستئذان، فالمعنى: حتى تستأذنوا وتسلموا، وقالوا: إذا قلنا: إن المراد بالاستئناس: التجول بالبصر أو الذي هو ضد الاستيحاش، كان ذلك بعد السلام ولا يكون قبل السلام، فكان سياق الآية سيكون إذا كان هذا هو المعنى: حتى تسلموا وتستأنسوا.

لكن أجيب على هذا بأن الواو لا تقتضي الترتيب، إنما تقتضي مطلق التشريك، وقد أسلفنا القول في ذلك عند تأويل قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} [آل عمران:٥٥] ، وقول العرب: جاء زيد وعمرو لا يريدون به الترتيب، بل يعنون: أن هذا جاء، وهذا جاء، وقد يكون أحدهما جاء قبل الآخر.