للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا أعمالهم كسراب.]

قوم آخرون وهم أهل الكفر ضُرِبَ لهم مثلان هنا: ألا وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:٣٩] ، والمثل الثاني: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} [النور:٤٠] ، وهذان المثلان في القرآن للكفار قد ضربا في سورة البقرة، ضرب لهم في أوائل سورة البقرة مثل مائي، وضرب لهم مثل ناري، وكذلك ضرب لهم المثلان في سورة الرعد، أما في سورة البقرة ففي ختام الربع الأول: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا} [البقرة:١٧] فهذا المثل الناري، والمثل المائي في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:١٩-٢٠] ، وكذلك في سورة الرعد في قوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:١٧] ، وهذان أيضاً مثلان هنا: المثل الأول: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:٣٩] .

والمثل الثاني: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور:٤٠] .

قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:٣٩] ثم قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ} [النور:٤٠] فهل هذان مثلان مضروبان لصنف واحد من الكفار أو هما صنفان من الكفار لكل صنف مثَلُهُ؟ الذي عليه كثير من المفسرين: أنهما مثلان لصنفين من الكفار، هما: الصنف الأول: الكفار الذين يعملون أعمالاً ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فهم يجتهدون في كفرهم وفي ضلالهم ويحسبون أنهم مهتدون.

والثاني: الكفار الجهلة.

فالمثل الأول ألا وهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:٣٩] والقيعة: هي المكان المستوي من الأرض، وقال البعض: إنها المكان المنخفض من الأرض، والقول الأول هو رأي كثير من المفسرين، ففي الظهيرة إذا سرت في مكان مستوٍ من الأرض فاشتد بك العطش أو لم يشتد بك العطش، ونظرت من بعيد حسبت أن هناك ماء، فإذا جئت إلى هذا المكان الذي ظننت أن به ماءً لم تجده ماءً، فالسراب هو الذي يراه الرائي من بعيد أنه ماءٌ وليس بماء، وهذا كثيراً ما يُرى في الأسفار، المسافر يرى من بعيد المكان كأنه ماء، فالله سبحانه وتعالى يمثله فيقول: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:٣٩] .

فالكافر يعمل أعمالاً ويرجو لها ثواباً، أو يظن أنه يحسن صنعاً، فإذا جاء يوم القيامة لم يجد لأعماله أي ثمرة، كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:١٨] لا يقدرون على تحصيل شيء مما كسبوا، وكما قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:١٠٣-١٠٤] ، فقوم اجتهدوا في طاعات وفي ظنهم أنها تقربهم من الله، ومع ذلك كان سعيهم ضالاً، وكدهم خائباً، وفعلهم طائشاً، وكما قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:٢٣] .

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:٣٩] ، ويا ليته لم يجده شيئاً فحسب، بل {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:٣٩] ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يوم القيامة كأنها السراب، فيقال لليهود: ماذا كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال لهم: كذبتم ما اتخذ الله من ولد، فماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا -أو انطلقوا- فيتساقطون في جهنم، إذ هم يحسبونها شراباً، ويقال للنصارى: ماذا كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم) ، فهذا مثل مضروب لليهود والنصارى الذين يجدون ويجتهدون في عبادة ربهم على ضلال، وعلى بعدٍ عن الصواب، فأعمالهم حسرات عليهم يوم القيامة، فهذا المثل مضروب لطائفة من الكفار يجتهدون في الأعمال على غير هدىً، ويظهر فضل العلم بالله سبحانه وتعالى وفضل الإيمان به في ثنايا هذه الآيات.

{وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:٣٩] وإذا أردت أن تعلم سرعة الحساب يوم القيامة، فتخيل أن الأولين والآخرين يجمعون في صعيد واحد يوم القيامة، فلا يأتي وقت القيلولة إلا وأهل الجنة قد استقروا في جنتهم، كما قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:٢٤] .