للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أحكام القواعد من النساء]

يقول الله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:٦٠] .

قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} فيه مقدر: حكمهن أنه ليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة.

{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} لأهل العلم أقوال في تحديد القواعد من النساء: فمنهم من قال: إن القواعد من النساء هن النساء اللواتي يئسن من المحيض.

ومنهم من قال: قد تكون المرأة يئست من المحيض ومع ذلك فهي تشتهى وبها قوة، فلا تكن من القواعد.

ومنهم من قال: إن القواعد من النساء هن النساء اللواتي لا يستشرفن للنكاح ولا يرجونه، أي: هي المرأة التي لا تريد النكاح ولا ترغب فيه، يعني: انقطعت حاجتها في الرجال.

ومنهم من قال: هن النسوة اللاتي كبرن حتى صرن لا يُشتهين، فهذه بعض أقوال العلماء في تحديد القواعد من النساء.

قال سبحانه: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} أي: لا يرغبن في النكاح، ولا يشتهين النكاح، {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ} أي: ليس عليهن إثم، فالجناح هو الإثم.

{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} والمراد هنا قطعاً: بعض ثيابهن، فليس معنى (أن يضعن ثيابهن) كل الثياب، إنما المراد: أن ينزعن بعض ثيابهن، أو ثيابهن الخارجية التي هي بمثابة الجلباب، فالمرأة في الغالب ترتدي درعاً أي: قميصاً، وليس المراد به: قميص النوم، إنما ترتدي ثوباً وفوق الثوب ترتدي جلباباً، فيجوز لها أن تخلع الجلباب وتبقى بالثوب -ثوب البيت- ومعه الخمار من غير تبرج.

فمن أهل العلم من قال: إن الثوب الموضوع هو الجلباب الخارجي، فمثلاً: نساؤنا يلبسن ثوباً أسود، وتحته ثوب آخر، فلا جناح عليهن إذا كن من القواعد أن يضعن ثيابهن الخارجية، ومع ذلك يحتطن، ولا يكن متبرجات بزينة، والتعفف أفضل كما لا يخفى، فإن جرير بن حازم أخرج عنه البيهقي بسند صحيح: أنه دخل على حفصة بنت سيرين وكانت من القواعد آنذاك، فرآها وهي مرتدية للنقاب والجلباب فقال لها: يا أماه يرحمك الله! ألم يقل الله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور:٦٠] ؟ فقالت له هذه المرأة الرشيدة: أكمل الآية، فأكملها: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [النور:٦٠] قالت: فهو إثبات النقاب.

فالاستعفاف مع ذلك خير، فكما قال فريق من العلماء: إن لكل ساقطة لاقطة، فقد تكون المرأة لا تشتهى في نظرك ولا تشتهيها نفسك، ولكن ثم أنفس أخر تشتهيها وترغب فيها، فلذلك قال سبحانه: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} أي: يستعففن ولا يضعن شيئاً من جلابيبهن.

قال سبحانه: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ} [النور:٦٠] التبرج: يطلق على التكشف، ويطلق على الظهور والبروز، قال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨] ، فأطلق عليها بروجاً لارتفاعها، قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر:١٦] فمن معاني التبرج: التكشف وإظهار ما خفي، فهذا من معاني التبرج.

فالمرأة القاعد وإن جاز لها أن تضع جلبابها إلا أنها مع وضعها الجلباب لا تتبرج، فلا تظهر حليها مثلاً للأجانب، كالعقد الذي يكون في صدرها، والقرط الذي يكون في أذنها.

{غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:٦٠] سميع للأقوال، عليم بما في النيات وما في الضمائر وما في السرائر، فهو يعلم هل وضعها لثيابها لأنه يشق عليها أو تبرج منها؟ العليم بذلك هو الله سبحانه وتعالى، الله سميع لقولها إذا تكلمت، هل تريد بكلامها خضوعاً في القول، وجذباً للرجال إليها، ولفت أنظار الرجال إليها؟ عليم بنياتها وبضميرها وما تكنه نفسها {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .