للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى: (على أمر جامع)]

ثم قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:٦٢] أي: إنما المؤمنون الذين كمل إيمانهم.

{الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:٦٢] وهذا الأصل، ثم شيء آخر {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ} [النور:٦٢] أي: مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} [النور:٦٢] ما المراد بالأمر الجامع؟ الأمر الجامع هو الأمر الذي يجتمع الناس عليه، فعلى ذلك الأمر الجامع: هو الأمر ذو الأهمية الذي يجمع الناس.

فمن ذلك مثلاً: صلاة الجمعة أمر جامع، الدعوة للجهاد والخروج إليه أمر جامع، الاجتماع لحفر الخندق أمر جامع، فهناك أمور جامعة كان يجتمع عليها الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن الأمر الجامع مثلاً أن يقال: هيا -يا إخوان- نحفر قواعد المسجد، فتأتي أفواج أهل الصلاح، ويستحي قوم فيدخلون في وسطهم فيبدأ العمل، فتجد قوماً يتسللون لواذاً، يهرب الواحد بعد الآخر، يتسلل ويهرب، هذا من ناحية، وهذا من ناحية أخرى، وهذا يستتر وراء هذا ويهربان، وكذلك كان الحال كما قال بعض العلماء في الجمعة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كان بعض الجالسين من أهل النفاق، هو أصلاً متبرم من الجمعة ومتبرم من الصلوات، فيتسلل هرباً، ويأتي آخر ويهرب بعده، ويأتي آخر ويستظل بهذا حتى يهربا معاً، كذلك في حفر الخندق، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحفر الخندق مع أصحابه، فيأتي قوم يريدون الكيد للإسلام يتسللون لواذاً، هذا يهرب بعد هذا، وهذا يهرب بعد هذا، وهذا يظهر في الأعمال الجامعة دائماً، تجد قوماً من ضعاف الإيمان هذا ديدنهم وهذا شأنهم، ليس لهم في الخير نصيب، مثلاً يقال: هيا -يا إخوان- نكنس المسجد، تجد فئة مؤمنة تقوم وتجتهد وتتفانى في طاعة الله سبحانه وتعالى، وفئة بليدة محرومة عندها غضاضة، تهرب واحدة تلو الأخرى، فالأمر الجامع هو الأمر الذي يجتمع المسلمون عليه، ففي هذا الأمر الجامع قوم مقبلون على الخير، وقوم أهل كبر وأهل غطرسة محرومون من الخير يهربون واحداً تلو الآخر، وهذا في أعمال البر بصفة عامة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور:٦٢] أي: كاملو الإيمان {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور:٦٢] ، يعني يقولون: ائذن لي -يا رسول الله- معي كذا وكذا، أما خلسة وهروباً فهذا فعل أهل النفاق، {لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} ، وهذا أيضاً من الأدلة الدالة على رفع الحرج، فمع أن الأمر أمر جامع جاز للإمام أن يأذن لذوي الأعذار، قد يكون الشخص مشغولاً فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [النور:٦٢] أي: للانصراف لمشاغلهم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:٦٢] ، فإذا كان المستأذن مؤمناً بالله واليوم والآخر، فما بالك بغير المستأذن الذي يمكث يعمل فهو من باب أولى أشد إيماناً.

فهنا ثلاثة أصناف: قوم بقوا في العمل مع النبي صلى الله عليه وسلم وبقوا معه في الأمر الجامع.

وقوم تسللوا لواذاً.

وقوم استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم لأعذارهم.

{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور:٦٢] ، ليسوا كلهم يؤذن لهم، إنما يؤذن لمن تراه أنت، وهذا موكول إلى اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي تراه محتاجاً إلى الإذن ائذن له، فهذه الآية خيرت الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعت الحرج عن الرسول أيضاً؛ لأن الرسول قد يأذن لشخص من غير أصحاب الأعذار تستر بعذر، فالله لم يقل له فأذن لأصحاب الأعذار منهم، فإن الرسول لا يعلمهم، إنما فيها أيضاً رفع الحرج عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أباح الله له أن يأذن لمن شاء منهم.

{فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} [النور:٦٢] ، فيه دليل على أن هذا الاستئذان في نفسه فيه خلل لترك العمل الجامع، فلذلك جبر هذا الخلل؟ باستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فهنا عمل خير، والناس مجتمعون عليه، فلما جاءه قوم يستأذنونه أذن لهم، فالاستئذان في نفسه قصور منهم، فيجبر هذا القصور بأن يستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:٦٢] .