للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ.)

{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٣٥] في قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) مسألة يجب التنبه لها وهي: إذا كان هناك قوم أهل إجرام وفي أوساطهم قوم مسلمون، هل تغزى الديار بما فيها من أهل الإسلام وهل تدمر بمن فيها من أهل الإسلام؟ أو يخرج أهل الصلاح منها ثم تشن الغارات على أهل الشر والفساد؟ قد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في جملة مواطن: يقول سبحانه: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:٢٥] ، نحن ما سلطناكم على المشركين عام الفتح لوجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات في أوساط الكفار، فإذا شننتم الغارات على الكفار قتلتم إخوانكم المؤمنين وقتلتم أخواتكم المؤمنات فأصابتكم منهم معرة -مضرة أو إثم- بغير علم، ولكن تمهلنا وتم صلح الحديبية حتى يخرج أهل الإيمان وحتى يتميز الكفار ومن ثم تأتي الضربات عليهم، {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح:٢٥] ، وكذلك في هذه الآية {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:٣٥-٣٦] ، وفي المقابل فيجوز شن الغارات على البلاد وإن كان فيها قوم صلحين إذا كثر فيهم الخبث كما في قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:٢٧-٩٩] ، وقد نزلت هذه الآيات في قوم من أهل الإسلام كانوا مستضعفين أجبروا على الخروج مع أهل الشرك لقتال المسلمين، فكان المسلم يرمي فيصيب أخاه فيقول: قتلنا إخواننا ويحزن لذلك أشد الحزن، فأنزل الله الآية: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) في شأن هؤلاء الذين خرجوا مع الكفار يكثرون سوادهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم، قالت عائشة: يا رسول الله! يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم، قال: نعم إذا كثر الخبث) ، وفي رواية أخرى: (يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم) ، وقد ورد أيضاً في الباب حديث: (الرجل الصالح الذي كان في بلدة ولكنه كان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر فقيل للملائكة: به فابدءوا) ، لكنه لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالحاصل بعد إيراد هذه النصوص يتضح لنا أن المقامات تختلف، فإذا كان المقام مقام غزو وأزمته بأيدي أهل الإيمان فلهم أن يتمهلوا في شن الغارات على الكفار، حتى يُخرجوا أهل الإيمان، وإن كان المقام مقام آخر وسيحدث أذىً لأهل الإسلام من وجود هذه الفئة المتعالية التي تمترست بالمسلمين فيجوز حينئذ اختيار أخف الأضرار، وقد صدرت فتوى في هذا الصدد من الأزهر أثناء الحروب مع اليهود لما احتل اليهود جزيرة بمصر يقال لها جزيرة شدوان، وكان بها بعض المسلمين، فنزلت قوات اليهود بها فصدرت فتاوى آنذاك من الأزهر بضرب الجزيرة بمن فيها من المسلمين والقوات اليهودية، ومثل هذه الفتاوى صدرت حينما احتل الإرتيريون جزيرة باليمن وغلب عليها أهل الصليب، فصدرت فتاوى بأن تضرب الجزيرة بمن فيها من المسلمين الذين تترس بهم، ففي المسألة فقه يختلف بحسب المقام والله أعلم.

قال الله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:٣٥] ، وهذا وإن كان على المستوى المتسع فهو على المستوى الضيق كذلك، كأن يكون هناك شخص صالح في وسط أقوام أهل شر وفساد، فهل يلقى القبض عليهم جميعاً وهو معهم أو يحاول إبعاده منهم ثم إنزال العقوبات على الآخرين؟ قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:٣٥-٣٦] ، وهو بيت لوط صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد أسلم مع لوط صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا عتاة، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يسلم معه أحد إلا لوط عليه الصلاة والسلام، ولوط ذهب إلى بلاد الأردن يدعو إلى الله فيها، وما آمن به أحد صلى الله عليه وسلم إلا أهل بيته، أما الآخرون فكانوا من الفضاضة والغلظة والقذارة بمكان كبير.