للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال الكافرين عند خروجهم من قبورهم]

وكما قال سبحانه في الآية الأخرى: {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:٧] ، قال سبحانه: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر:٧] ، أي ذليلة أبصارهم {يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ} أي: القبور {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:٧] ، الخشوع محبوب في الدنيا، فلماذا هو مذموم في الآخرة، الله سبحانه وتعالى حمِد الخاشعين له في الدنيا، وقال في آية أخرى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:٢-٤] ، فكيف هي خاشعة ومع ذلك تصلى ناراً حامية؟! العلماء قالوا: إن الخشوع في الدنيا يجلب الأمن في الآخرة، وعدم الخشوع في الدنيا لله سبحانه يجعل الشخص ذليلاً خاشعاً في الآخرة، فلا إشكال، فهذا خشوع الدنيا وذاك خشوع الآخرة.

قال سبحانه: (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ) أي: ذليلة أبصارهم، (يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ) أي من القبور، (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ) يعني: مسرعين كأنهم جراد منتشر، وتقدم الجمع بين هذا الوصف في هذه الآية: (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ) وبين الوصف في الآية الأخرى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:٤] ، فالفراش المبثوث له طريقة في انتشاره، والجراد المنتشر له طريقة في انتشاره، فالفراش دائماً يطير بشكل غير منظم، يتجه فريق منه إلى اليمين، وفريق منه إلى الشمال، وفريق إلى أعلى وفريق إلى أسفل، أما الجراد في مسيره وانتشاره فانتشاره منظم، تجد أسراب الجراد تمشي كلها إلى وجهة محددة، فكيف الجمع بين قوله: (يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ) ، أي: متجهون وجهة محددة، وبين قوله: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) ، أي: الفراش المنتشر أيضاً؟ العلماء يقولون: إذا دعاهم الداعي خرجوا كلهم من القبور متجهين في خط واحد إلى الداعي الذي دعاهم، لا ينحرفون عنه يمنة ولا يسرة، إذا دعاهم الداعي لا ينحرفون عنه يميناً ولا يساراً بل كلهم يتجهون أسراباً وأفواجاً إلى هذا الداعي، لكن في مواقف أخر، مثلاً: حين تتطاير الصحف، أو حين يُدعى للمرور على الصراط، أو حين يدعى للميزان، فحينئذٍ الأفئدة تطير وتذهب، وكل يجري في وجهة لا يدري إلى أين يذهب، ولا يدري إلى أين يفر.

{مُهْطِعِينَ} أي: مسرعين {إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:٨] ، أي: شديد، وهذه كلمة موجزة من الكفار تدل على مدى الهم الذي هم فيه، ومدى النكد الذي يعيشونه، ويلامسونه، كلمة موجزة: (هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي: يوم شديد وشاق والعياذ بالله! وقوله سبحانه عن الكافرين: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:٨] ، هل هو عسِر على الكافرين فقط كما قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:٩-١٠] أم هو عسِر أيضاً على أهل الإيمان؟ للعلماء في هذا الإشكال أقوال: أقواها: أنه عسِر على الجميع، لكن وصِف بأنه على الكافرين غير يسير، وأن الكافرين يقولون: هذا يوم عسر؛ لأن عسره لن يزول عن الكافرين، أما العسر الذي لحق بأهل الإيمان فإنه عسر زائل، والعسر الزائل لا يُطلق عليه عسرٌ إذ مآله إلى الزوال، أما العسر الملازم فهو الذي يطلق عليه العسر، كما روي عن رسول الله أنه كان يستعيذ بالله من جار السوء في دار المقامة، فإن جار السفر يوشك أن يزول، الجار في السفر والصاحب في السفر وإن كان مؤذياً فبانتهاء السفر يزول، أما الجار الذي يساكنك ويجاورك طيلة حياتك، الجار المؤذي هو هذا الذي يستعاذ منه، فمن أهل العلم من قال: إن اليوم عسير على الجميع لكن عسره على أهل الكفر أشد، أما عسره على الجميع فلقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، قلت: يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض) ، فهذا عام لـ عائشة ولغيرها، وقال الله سبحانه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:٣٤-٣٦] ، وقول آدم صلى الله عليه وسلم وكذا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام جميعاً: نفسي نفسي، كلهم يقول: نفسي نفسي، من هول المطلع، والله سبحانه وتعالى أعلم.