للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرحمة والرأفة صفتان من صفات الله تعالى]

وقوله: (وَرَحْمَتُهُ) : الرحمة ضد العذاب، وكم لله عز وجل من رحمةٍِ بالعباد، وأعظمها رحمة الدين والهداية، والبعد عن سبيل الضلال والغواية! فهذه أجل النعم وأعظمها، وهي النعمة التي لا يعطيها الله عز وجل إلا لمن أحب، أي: لولا أن الله تفضل عليكم ورحمكم، كيف يكون الحال؟! وكيف يكون شأنكم؟! وقوله: (وَرَحْمَتُهُ) : فيه إثبات صفة الرحمة لله تبارك وتعالى، وهي الصفة التي بلغت الكمال والغاية، فلا أرحم من الله ولا أحلم بخلق الله عز وجل منه، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل قسم الرحمة إلى مائة جزءٍ، ثم أنزل منها جزءاً واحداً يتراحم الخلق به) .

فهذا الجزء الواحد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شاهدٍ مِن شواهده، وهي: أن الدابة لترفع قدمها لرضيعها حتى لا تطأه، فهذا من ذلك الجزء من الرحمة، حتى إذا كان يوم القيامة جمع ما عنده إلى ذلك الجزء فرحم به عباده وهو أرحم الراحمين، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل كتب كتاباً عنده قبل خلق السموات والأرض أن رحمتي تسبق عذابي) فرحمته سبحانه وتعالى بعبيده وخلقه أعظم وأجل من كل رحمة، ولا رحمةَ إلا مِن رحمةِ الله تبارك وتعالى! وكم لهذه الرحمة من شواهد ودلائل! رحم العباد فسخر لهم الأرزاق والنعم والمنن: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:٦] وما ماتت دابة من الدواب تحتسب رزقها على الله عز وجل.

وكذلك رحمهم بألفة بعضهم لبعض، حتى رحم الصبي إذ أوجده، فعطفَ قلبَ أمه عليه إنساناً كان أو حيواناً.

ورحم العباد فجعل قلوبهم متفاوتة، فمنهم الحليم الرحيم الرفيق الرقيق، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فإن كانت الشدة صَلُح لها قوي القلب، وإن كانت الرقة صلح لها رقيق القلب بإذن الله، وكل ذلك من شواهد رحمته.

وأما رحمته بالعبد فقد رحمه وهو في الظلمات -في بطن أمه- تقلب في طور الخلق طوراً بعد طور، يكلؤه بعنايته، ويحفظه برعايته، ويشمله برحمته، فأعطاه الغذاء، وأعطاه ما ينبت لحمه وينشز عظمه، وما من حركة له في تلك الظلمات إلا قدَّرها عليه، وما من سكون له في ذلك المكان الذي لا يعلمه سواه إلا وهو لطيف رحيم به سبحانه وتعالى.

وأغرب ما يكون أنك ترى المرأة وهي في حَملها وقد حان وضعها لو أنها عُرِّضت بفجيعة واحدة لأسقطت جنينها ولمات ذلك الجنين! فسبحانك ما أرحمك وما أحلمك وما أرأفك بخلقك! فرحم الإنسان في تلك الأحوال، ولو أنها ضُربت على بطنها ضرباً لربما سقط جنينَها ميتاً، ولربما ماتت معه من ذلك الإسقاط، فهذه رحمة سبقت قبل وجود الإنسان.

ثم جاءت تلك الساعة العصيبة الرهيبة ساعة وضعه، فأعطاه رحمته وأولاه عنايته، فكانت ساعةً يرى فيها الموت، وترى أمُّه فيها الموت، حتى إن مريم بنت عمران كما يقول الله: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم:٢٤] وذلك عندما جاءتها تلك الساعة و {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:٢٣] .

ورحم الله عز وجل العبد بعد أن أخرجه إلى هذه الدنيا، فسخَّر له الشراب السائغ يغتذي به ليله ونهاره، وصباحه ومساءه، فهل عدم يوماً من الأيام رزق الله؟! وهل فقد يوماً من الأيام هذه الرحمة من الله؟! ثم تقلب في طور بعد طور، ومرحلة بعد مرحلة، يغذوه بنعمه ومنّه وكرمه، حتى أصبح بشراً سوياً جَلْداً قوياً قال: لا رب لي، ولا إله لي والعياذ بالله! فكان أعظم ما يكون فجوراً وكفوراً وإعراضاً عن الله! وبالنفس غروراً! ومع ذلك يرحمه، فيطعمه من طعامه، ويسقيه من شرابه، ويظله بظله، ويشمله برحمة لا يعلمها إلا هو سبحانه، مع أنه عاصٍ متمرِّد على الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية.

وهذا من أبلغ ما يكون من الرحمة.

فكل هذه النعم لو لم تكن كيف يكون حال الإنسان؟! بل إن الإنسان لو أن الله عز وجل تركه طرفةَ عين يمشي دون رحمةٍ لَهَلَكَ والعياذ بالله، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) أي: لا تحرمني هذه الرحمة وهذا اللطف والرحمة منك سبحانك وتعاليت، فالمقصود: أن الله عز وجل نبه العباد بهذه الآية إلى أنهم حقراء فقراء إلى رحمته، لولا الرحمة من الله واللطف منه عز وجل: كيف سيكون حالكم؟! {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:٢٠] : رءوف بكم! رحيم بكم! لا تستوجبون عليه من ذلك شيئاً؛ ولكنه صاحب الفضل والكرم.

وقوله: (رَءُوفٌ رَحِيمٌ) : فيه إثبات صفتين لله عز وجل: - صفة الرأفة.

- وصفة الرحمة.

ورأفة الله عز وجل غاية الرأفة، ولا تكون الرأفة إلا بالعطف الشديد على الإنسان، فيقال: فلان يرأف بفلان إذا عطف عليه عطفاً شديداً، والله تبارك وتعالى على أكمل ما يكون رأفةً بالعباد، ولذلك صح في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما كان في الغزاة ففقدت امرأة صبيها فولهت من فقده، فجاء صبيها يعدو فانتشلته ورفعته، فقال عليه الصلاة والسلام: (أترون هذه طارحةً ولدَها في النار؟! قالوا: لا.

قال: لَلَّهُ أرحم بخلقه من هذه بولدها) فهذا يدل على عظيم رأفته وجليل رحمته سبحانه وتعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>