للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[استفهام الله عز وجل]

وقوله: (يستفهم وهو أعلم) ، أي أن الله سبحانه وتعالى يستفهم، وهذا الاستفهام أنواع، فمنه: - استفهام تقريري، مثل قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:١٧٢] .

- ومنه استفهام إنكاري، وكثيراً ما يقع في القرآن للرد على المشركين، فيأتي الاستفهام إنكارياً، ولكنه لا يقصد به الاستعلام؛ لأنه هو أعلم، ونظير ذلك الاستفهام من أجل الاستشهاد مثل حديث: (إن لله ملائكة سيارين في الأرض بغيتهم حلق الذكر، فإذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم، وتنادوا: أن هذه طلبتكم، فيمكثون ما شاء الله، ثم يرتفعون إلى ربهم، فيقول: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك ويكبرونك ويهللونك، فيقول: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا عليها أشد حرصاً ولها أشد طلباً، فيقول: ومماذا يستعيذونني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجة، فيقول: هم الرهط أو هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) .

فهذا الاستفهام كله وهذه الأسئلة كلها لا يقصد بها زيادة علم، وإنما يقصد بها استشهاد الملائكة على ذلك، والملائكة يشهدون كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:١٦٦] ، فالملائكة يشهدون هذا، والله سبحانه وتعالى يسألهم لتثبت الشهادة عندهم بأنه استشهدهم على هذا.

والاستفهام في اللغة معناه طلب الفهم، لكنه في الاصطلاح لا يقصد به ذلك، بل يقصد به السؤال مطلقاً.

وأسئلة الله سبحانه وتعالى لخلقه بالاستفهام كثيرة، سواء كانت على وجه التشريع مثل سؤاله لموسى عليه السلام: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:١٧] ، وهذا النوع من الاستفهام لا يدخل في الأنواع السابقة؛ فليس استفهاماً إنكارياً ولا تقريرياً ولا استشهادياً، وإنما يسمى استفهاماً تأنيسياً، فيؤنسه بهذا السؤال؛ لأنه يخاطبه ديان السماوات والأرض، وهو بشر فلو خاطبه بغير هذا الخطاب لأمكن أن ينشق شغاف قلبه من خشية الله، ولكنه أنسه فخاطبه بهذا الاستفهام العجيب فقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:١٧] ، وهنا أجاب موسى بهذا الجواب الذي فيه إطناب، وأراد بذلك التزود بتكليم الله سبحانه وتعالى له فقال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:١٨] ، وكان الجواب المطلوب على طبق سؤاله أن يقول: عصاً، فيكفي لو قال: عصاً، ولكنه انتهز فرصة تكريم الله له هذا التكريم العجيب، فأطال مدة الجواب، ولهذا قال: (يستفهم وهو أعلم) .

وقد جاء في عدد من الأحاديث التي فيها سؤال الله تعالى للملائكة: (فيسألهم وهو أعلم) ، وهذا يدلنا على أن الاستفهام لا يقصد به الاستخبار ولا زيادة علم.

والألفاظ الواردة في القرآن في الابتلاء والامتحان التي يأتي بعدها (ليعلم) ، فلا يقصد بها مزيد علم لله سبحانه وتعالى وإنما يقصد بها إيضاح ذلك للناس، وهو الخروج من حيز العلم الغيبي إلى علم الشهادة، مثل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:١٤٢] ، ونحو هذا قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:٢٦-٢٨] ، ثم عقب الآية لينفي احتمال تجدد العلم فقال: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن:٢٨] فلا يمكن أن يزداد علمه بحصول ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>