للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ذكر الاختلاف المذموم]

(ورحمة سكت عن أشياء) هذا اللفظ هو الذي جاء في الحديث، فالمقصود بـ (أشياء) هنا: ما لم يرد فيه نص قطعي الدلالة والورود، فيصبح محلاً للاجتهاد قابلاً للاختلاف فيه، والاختلاف أصله مذموم، ولكنه في مثل هذا الموطن محمود، فأصل الاختلاف عموماً مذموم؛ ولذلك جعله الله تعالى نوعاً من أنواع العذاب وجعله منافياً للرحمة، فجعله نوعاً من أنواع العذاب في قوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:٦٥] ، وجعله منافياً للرحمة في قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:١١٨-١١٩] ، وفسر به الشرك في قوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:٣٠-٣٢] .

وتوعد الله عليه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:١٥٩] ، وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:٤٥-٤٦] ، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الاختلاف كثيراً، وبالغ في التحذير منه حتى سمى القتال فيه كفراً، والمقصود بذلك أنه: كفر دون كفر كما جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وكذلك قوله: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) فالمقصود بهذا: كفر دون كفر.

والتحذير من الاختلاف عموماً ورد في النصوص بكثرة؛ لكن الخلاف في المسائل الاجتهادية فسحة ورحمة، والله سكت عنها رحمة، وكان قادراً على أن يجزم بها بالتشريع بالنص، ولكنه سكت عنها رحمة بعباده وتوسعة عليهم.

(من غير نسيان) ، فالسكوت لابد معه من التنزيه، فإنه لا يسكت عن جهل كما يحصل لنا نحن، فنحن نسكت إذا جهلنا، فالله سبحانه وتعالى متصف بالعلم الكامل الذي لا يعروه قصور؛ فلذلك لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم ولا يمكن أن ينسى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:٥٢] فلذلك قال: (من غير نسيان) ، فالنسيان مستحيل عليه: (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) وهذه صفة جاءت عرضاً في تقرير الصفة المثبتة فحين أثبت صفة السكوت جاء في تقريرها عرضاً الصفة المنفية التي هي النسيان، فالنسيان صفة منفية عن الله سبحانه وتعالى.

(على ما جاء) يشير بهذا إلى أن الحديثين الواردين في صفة السكوت فيهما كلام من ناحية الصناعة الحديثية، لكنه ثبت معناهما فلا ضرر في ذلك الكلام حينئذٍ، لهذا قال: (على ما جاء) أي: على ما ورد، وهذا يشير فيه إلى الكلام فيهما، فليست هذه الكلمة تسليماً كما يمكن أن يتفهمه من كان من أهل الاستعجال، بل قصد بها التنبيه على ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>