للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مخالفة الإنجيل للتوراة]

وأما الإنجيل فقد جاء فيه تغيير كثير لأحكام التوراة، وقد صرح بذلك عيسى عليه السلام في سورة آل عمران في قوله تعالى حكاية عنه: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:٥٠] ، فقد صرح بأنه سيحل لهم بعض الذي حرم عليهم.

وقد ذكر بعض العلماء مقارنة بين ملة موسى وملة عيسى، فجعلهما طرفين مختلفين في كثير من المسائل، وجعل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسطاً بينهما.

ولهذا أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأيام فذكر أن في الأسبوع يوماً فاضلاً عند الله، وأن الله أخبر به الرسل، وأن موسى أخبر به قومه فضلوا عنه؛ فطلبوه فالتمسوه في اليوم الذي بعده، وهو يوم السبت، فجاء النصارى فطلبوه، فالتمسوه في اليوم الذي بعد ذلك، وهو يوم الأحد، وهدى الله المسلمين إليه، وهو يوم الجمعة.

فهو اليوم الفاضل، والناس في ذلك تبع لنا، فاليهود عندهم يوم السبت، والنصارى عندهم يوم الأحد.

ومن هذه الأحكام: قضية تعدد الزوجات، فإنه مباح في التوراة إلى غير حدود، حيث يجوِّز للرجل أن يتزوج ما شاء من النساء، ولذلك تزوج سليمان بن داود ألف امرأة.

وأما الإنجيل ففيه تحريم تعدد الزوجات مطلقاً، حتى لو تزوج الإنسان فماتت زوجته في ليلتها الأولى لم يحل له الزواج بعد ذلك.

وجاءت هذه الشريعة وسطاً لمراعاة حقوق الزوجين معاً، فلا يستطيع الرجال ولا يحتاجون إلا إلى أربع نسوة في أقوى صورهم.

وكذلك لم يبح التعدد فيما كان أكثر من هذا، وإذا كان الرجل أيضاً لم يستطع العدل أو لم يستطع في جسمه أو ماله أو مسكنه التعدد لم يحل له مطلقاً.

وكذلك فيما يتعلق بالتعامل مع الحائض؛ فإن اليهود حُرم عليهم الجلوس مع الحائض على فراش واحد، وحرم عليهم الكلام معها ما دامت حائضاً.

والنصارى أُحل لهم وطء الحيَّض، وفي الشريعة الإسلامية جاءت الوسطية، فحل الأكل معها، والجلوس معها على فراش واحد، والكلام معها، ولكن حرم وطؤها، وهذا من مظاهر وسطية الشريعة الإسلامية.

ومظاهر هذا كثيرة في الملتين، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله أن ما بقي من الإنجيل بيد النصارى حكم واحد فقط، وهو عدم تعدد الزوجات، وأن كل الأحكام الأخرى قد غيروها وبدلوها! فكل ما يتعلق بالأحكام من أصل الإنجيل قد غير وبدل، وما بقي منه إلا حكم واحد، وهذه الكتب تختص بالرسل من البشر، وقد ذكرنا أن الرسل يكونون من البشر ومن الملائكة، فلذلك قال: والكتب التي على رسل البشر أنزل من كلامه جل والرسْل: جمع رسول، وهو جمع تكسير، أصلها (رُسُل) وكتبت بالإسكان.

وأضيفت الرسل إلى البشر لأنهم رسل إليهم، وهذا مخرج للرسل من الملائكة، فإنهم لم تنزل عليهم كتب، وإنما يؤتمنون على توصيل الكتب إلى البشر أو توصيل الأوامر والنواهي إلى الملائكة.

والإنزال من عند الله سبحانه وتعالى هو الوحي، وهو مختلف الصور، فقد يكون بالكتابة وتسليمه، وقد يكون بالكلام مباشرة من وراء حجاب، وقد يكون بإرسال الملك، وقد يكون بتكليمه في النوم، وغير ذلك، فكل هذا يسمى إنزالاً؛ لأنه قادم من جهة العلو، وكل ما هو قادم من جهة العلو، يوصف بأنه نازل ومنزل.

<<  <  ج: ص:  >  >>