للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ابن مسعود أول من جهر بالقرآن في مكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم]

إنه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، ولم يمض غير قليل وإذ به يذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول: يا رسول الله! ألا تقبلني خادماً لك؟ فيقبله النبي عليه الصلاة والسلام، ومن يومها ينتقل هذا الغلام هذه النقلة الكبيرة من رعاية الأغنام إلى خدمة سيد الأنام، هكذا بدون مقدمات، من رعاية الأغنام لكافر من كفار مكة إلى خدمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، بل ولم يمض غير قليل وإذ بهذا الفتى الذي لم يكن يجرؤ بالأمس القريب أن يمر على مجلس فيه شريف من أشراف مكة إلا مطأطئ الرأس حثيث الخطى، هاهو يتحول اليوم بعد لحظات معدودات إلى إعصار مدمر! وإلى بوق سماوي مزلزل! يتحول إيمانه ويقينه في قلبه إلى شيء يدمر كبرياء سادة قريش وكبرائها! ها هو الغلام الأجير الفقير المغمور ينطلق ليقف على رءوس أشراف مكة في وضح النهار حول بيت الله جل وعلا فيرفع صوته العذب الحلو بسورة الرحمن؛ ليكون هذا الغلام الأجير الفقير المغمور أول مسلم على ظهر هذه الأرض يجهر بالقرآن في مكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولندع شاهد عيان ينقل لنا هذا المشهد المثير، هذا المشهد الذي رواه بطوله ابن هشام في سيرته، ورواه مختصراً الإمام ابن حجر في الإصابة، ورواته ثقات، يقول الزبير بن العوام رضي الله عنه: اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوماً في مكة، وما زالوا مضطهدين في هذا الوقت، وما زالوا مشردين فقالوا: قريش لم تسمع القرآن يشهر لها به قط، فهل من رجل يسمعهم القرآن؟ أتدرون من الذي أجاب بنعم؟! إنه هذا الغلام الفقير، الذي كان بالأمس القريب راعياً لأغنام سيد من سادات مكة، فقال ابن مسعود: أنا، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نريد واحداً له عشيرة تمنعه وتحميه إن أراد به أهل مكة شراً، فقال ابن مسعود: دعوني، فإن الله سيمنعني ويحميني، وانطلق ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه في اليوم التالي في وقت الضحى، حتى أتى مقام إبراهيم -على نبينا وعليه الصلاة والسلام- ووقف ليقرأ القرآن بصوته الحلو العذب الرقيق، وبدأ بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، رافعاً به صوته، والمشركون يجلسون حول الكعبة، وظل يقرأ سورة الرحمن: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:١-٤] فنظر سادة قريش إلى بعضهم البعض وقالوا: ماذا يقول ابن أم عبد؟! تباً له إنه يتلو بعض ما جاء به محمد! إلى هذا الحد من الجرأة! يتلو على مسامعنا وبين أيدينا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فقاموا إليه وضربوا وجهه ضرباً شديداً عنيفاً حتى سال الدم الشريف على وجهه الأنور، وانطلق بهذه الدماء الطاهرة إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا والله ما خشيناه عليك يا ابن مسعود، أتدرون ماذا قال هذا الغلام الضعيف القوي؟! قال: والله ما كان أعداء الله أهون في عيني من اليوم، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً، فقالوا: كلا، فلقد أسمعتهم ما يكرهون.

<<  <  ج: ص:  >  >>