للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نزول الوحي بتبرئة الصديقة رضي الله عنها]

عباد الله! لحكمة يعلمها العليم الحكيم، انقطع الوحي شهراً كاملاً ولم ينزل الله آية واحدة في شأن حادثة الإفك على قلب حبيبه المصطفى، والنبي صلى الله عليه وسلم يتلوى من الألم، ومن الحزن، ومن هذا البلاء، فنزل الوحي، وشخصت الأبصار، وانقطعت الأنفاس، وهمس الجميع، والكل ينتظر هل نزلت براءة عائشة؟ تقول عائشة رضي الله عنها: فلما سري عن النبي صلى الله عليه وسلم، سري عنه وهو يضحك، وكانت أول كلمة نطق بها رسول الله أن نظر إليّ وقال: أبشري يا عائشة! لقد برأك الله عز وجل.

الحمد لله الذي يسمع ويرى، الحمد لله الذي يعلم السر وأخفى، الحمد لله الذي يسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء! أبشري يا عائشة لقد برأك الله من فوق سبع سماوات، لا برؤيا وإنما بوحي يتلى، بل وسيظل يتلى إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها! أبشري يا عائشة! لقد برأك الله عز وجل.

فقالت أمها: الحمد لله، قومي يا عائشة إلى رسول الله -أي: قومي إليه فاشكريه- فقالت: لا والله، والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي من السماء.

يا له من يقين عجيب! لا والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي.

وجلس الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليتلو على أسماعها لأول مرة براءتها من فوق سبع سماوات: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذ ِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:١١-٢٠] .

وكان الصديق رضي الله عنه يعطي النفقة لـ مسطح بن أثاثة لقرابته وفقره، فلما تكلم في عائشة، قال الصديق: والله لا أعطيه النفقة بعد اليوم أبداً، فنزل قول الله جل وعلا: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:٢٢] فلما سمعها الصديق قال: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، وأعطى النفقة مرة أخرى لـ مسطح رضي الله عنه وغفر له، وقال الصديق: (والله لا أنزعها منه أبداً) .

وهكذا أيها الأحباب خرجت عائشة من هذه المحنة بهذه المنقبة وهذه الفضيلة، وزادت مكانتها في قلب الحبيب المصطفى، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

<<  <  ج: ص:  >  >>