للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فتنة القول بخلق القرآن]

لعل أعظم محنة وفتنة تعرض لها الإمام رضي الله عنه وأرضاه هي محنة خلق القرآن التي كانت سبة الدهر، وعار الأيام، وتلطخ بها ثلاثة من خلفاء الدولة العباسية متعاقدين هم بالترتيب: الخليفة المأمون، والخليفة المعتصم وولد المعتصم الخليفة الواثق.

وأصل هذه البدعة أيها الأحبة: أن الخليفة المأمون الذي قرأ بعض الكتب المترجمة عن اللغة اليونانية قد أعجب بفكر المعتزلة، واعتنق هذه العقيدة، وقرب منه رأس المعتزلة في حينه أحمد بن أبي دؤاد، وهذه فتنة كبيرة لا ناقة للمسلمين فيها ولا جمل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

عباد الله! القرآن كلام الله عز وجل أنزله الله تبارك وتعالى على قلب حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأنذر به النبي وبشر، وحفظه الصحابة ووعوه في قلوبهم وعي من سحر ببيانه وعظيم أسلوبه وقوة برهانه، وحولوا هذا القرآن إلى واقع عملي في حياتهم وسلوكهم، وآمنوا بمحكمه ومتشابهه امتثالاً عملياً لقول الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:٧] وهكذا كان سلفنا الصالح يشتغلون بتطبيق القرآن والعمل به عن الجدل في آياته وأحكامه هكذا كان دأبهم رضي الله عنهم وأرضاهم إلى أن دخلت هذه الأفكار والعقائد والفلسفات التي بسببها استكبرت العقول، وتطاولت على كل شيء، حتى في التفكير في ذات الله وتقليب الرأي في صفاته جل وعلا، وهو الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، جل عن الشبيه وعن المثيل والنظير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.

لماذا هذا التعنت؟ ولماذا هذا التنطع؟ ولماذا هذا التشدد؟ شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، كما فعل بنو إسرائيل، قال الله عز وجل: اذبحوا بقرة، قالوا: ما لونها ما صفاتها ما عمرها ما سنها ما شكلها؟ إن الله يأمر أن تذبحوا بقرة فاذبحوها أياً كانت، فلما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم.

ألا يسعنا من القرآن ما وسع النبي وأصحابه رضي الله عنهم؟! ما الداعي لهذه الفتنة التي أحرقت الأخضر واليابس، وأخذت دماء الأطهار الأبرار من العلماء الأفاضل والأخيار الكبار؟! ما الداعي لها؟ إنها فتنة ابتدعها هذا المعتزلي أحمد بن أبي دؤاد واعتنقها الخليفة المأمون وأراد أن يحمل الناس على اعتناقها، بل والعلماء الفضلاء أيضاً.

وكثير من العلماء لم يصبر على هذا العذاب، والسجن، والقتل، فقال بما أراده المأمون من خلق القرآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا أن للحق رجالاً ثبتهم الله جل وعلا كثبوت الجبال الراسيات، وكان الإمام أحمد جبلاً راسياً ثابتاً راسخاً لم يقل إلا بما علمه من كتاب الله وسنة رسول الله، حتى ولو قدم بدنه رخيصاً لدين الله عز وجل، ولسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام أحمد قولته الخالدة: القرآن كلام الله عز وجل وليس بمخلوق.

وكانت هذه الفتنة أول ما أطلت برأسها في خلافة هشام بن عبد الملك، وكان أول من قال بها هو الجعد بن درهم عليه من الله ما يستحقه، فهو أول من قال بخلق القرآن، ولكن هشام بن عبد الملك رحمه الله تعالى وجزاه الله عن هذه الأمة خير الجزاء أمر أميره على العراق خالد القسري أن يقتل الجعد بن درهم، فقام خالد في خطبة عيد الأضحى وخطب الناس وقال في آخر خطبته: انصرفوا أيها الناس وضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ اليوم بـ الجعد بن درهم، ونزل من على المنبر فقتله، وأراح الناس من شره وفتنته.

وخمدت نار الفتنة في مهدها إلى أن أطلت برأسها مرة أخرى في خلافة المأمون، وقال الإمام أحمد قولته، فأمر الخليفة المأمون أن يرسلوا إليه أحمد بن حنبل، وقيد الإمام بالأغلال والحديد وحمل على بعير وذهب به إلى الخليفة المأمون، وفي طريقه مر عليه رجل من الأعراب من بني ربيعة يقال له: جابر بن عامر رحمه الله تعالى، والإمام أحمد وهو راكب على البعير مقيد بالأغلال، فقال له: السلام عليك يا أبا عبد الله فرد عليه الإمام أحمد السلام، فقال هذا الرجل الأعرابي العاقل الفقيه: يا أبا عبد الله! إنك رأس المسلمين اليوم، فإياك أن تستجيب إلى ما دعوك إليه، فأنت رأس الناس وسلف الناس، وإن أجبتهم بما يريدون سيقول الناس بمثل مقالتك وتحمل أوزارهم أمام الله يوم القيامة، فإن كنت تحب الله يا أبا عبد الله! فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ليس بينك وبين الجنة إلا أن تقتل في سبيل الله عز وجل، وإن لم تقتل مت، وإن عشت عشت حزيناً.

يقول أحمد: فصبرني هذا الكلام، وزادني عزماً على ما كانت عزمته بإذن الله جل وعلا وحوله.

فلما وصل الإمام إلى منزل الخليفة المأمون خرج إليه خادم من قصر الخليفة وكان يعرف الإمام، فلما رأى هذا الخادم الإمام مقيداً بالقيود والأغلال بكى وقال له: يا أبا عبد الله! والله إنه ليعز عليّ أن أرى الخليفة المأمون قد سل سيفاً ما سله قبل اليوم، ويقسم الخليفة بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: والله إن لم يجبني أحمد للقول بخلق القرآن لأقتلنه بسيفي هذا، فجثا الإمام أحمد على ركبتيه، ورفع طرفه إلى السماء، ونادى من يسمع دبيب النملة السوداء تحت الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وقال لربه جل وعلا: سيدي! غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، فاللهم إن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مئونته بما تشاء.

ووالله لم تمض هذه الليلة إلا وسمع الإمام في الثلث الأخير من الليل صياحاً وصراخاً في قصر الخليفة، فلما سأل الإمام عن سبب هذا الصراخ، قالوا له: لقد مات الخليفة المأمون.

واستجاب الله دعاءه ومات الخليفة المأمون، ولكن الخليفة كان قد أوصى إلى أخيه المعتصم أن يرث أداة الفتنة المحركة ابن أبي دؤاد عليه من الله ما يستحقه، وورث المعتصم رأس الفتنة ابن أبي دؤاد، وصدر الأمر بسجن الإمام أحمد.

أتدرون كم هو الوقت الذي ظل فيه إمام أهل السنة في السجن؟ سجن الإمام أحمد في خلافة المعتصم ثمانية وعشرين شهراً على الكمال والتمام، وما ذاك إلا لأنه يوحد الله توحيداً خالصاً.

ولما أرادوا أن يدخلوه السجن ودخل فيه قال قولته الجميلة، قولة يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:٣٣] ، ومكث الإمام في السجن، وظلوا يرسلون إليه كل يوم رجلين ليناظرانه في هذه القضية الخطيرة وهذه الفتنة الكبيرة، وكان الإمام لا يغير قوله أبداً، ويقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، فلما سمع المعتصم بعناد أحمد وقوته، وأنه لا يريد أن يقول ما يقوله الخليفة قال: أدخلوه عليّ، فأدخلوا الإمام أحمد مكبلاً بالقيود والأغلال على المعتصم وقد جمع خلقاً كثيراً في مجلسه، وعلى رأسهم أحمد بن أبي دؤاد، ودخل الإمام على الخليفة فقربه المعتصم منه حتى أدناه من مجلسه.

يقول أحمد: فأثقلتني القيود فجلست ثم قلت له: أتأذن لي بالكلام يا أمير المؤمنين؟ فقال المعتصم للإمام: تكلم.

فقال أحمد رضي الله عنه وأرضاه سائلاً المعتصم: إلى ما دعا الله ورسوله يا أمير المؤمنين؟ فسكت المعتصم هنيهة ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فقال أحمد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم نظر الإمام إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين! إن جدك ابن عباس رضي الله عنهما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه وفد عبد القيس وسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: الإيمان أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم) وأنا أقر بهذا، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأقيم الصلاة، وأوتي الزكاة، فاستحيا المعتصم وقال لـ أحمد: والله لولا أني رأيتك في يد من كان قبلي لعفوت عنك، سبحان الله! ثم صرخ الخليفة فيمن حوله وقال لهم: ناظروه كلموه، وغر هؤلاء الجهلاء المعتصم بإمام أهل السنة الأكبر الأعظم، فأمر المعتصم بجلد الإمام رضي الله عنه، ووقف المعتصم بنفسه إلى جوار الجلاد فيأمر الجلاد أن يضرب أحمد سوطين، ثم يتقدم إلى أحمد يقول له: يا أحمد أجبني بقولي لأفك قيدك بيدي، فيرد الإمام تحت وطأة هذه السياط التي تلهب الأجساد يقول له: أعطني شيئاً من كتاب الله وسنة رسول الله أقول به.

دمه الكتاب والسنة روحه الكتاب والسنة أنفاسه التي يتنفسها الكتاب و

<<  <  ج: ص:  >  >>