للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من وسائل التربية القدوة الصالحة]

وأرجو الله أن يبارك لي في وقتي وفي وقتكم، لنتحدث الليلة عن الوسيلة الأولى ألا وهي: التربية بالقدوة.

والحق أقول: والله يا إخواني إنني وأنا أتحدث الآن عن التربية بالقدوة أراني أتجاوز قدري، وأتعدى حدودي، ويرن في أذني الآن قول القائل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كي ما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقول ويقتدى بالفعل منك وينفع التعليم ولكن المرء -أيها الأحباب- قد ينطلق في حديثه لا من منطلق شعوره بأنه قدوة، ولا من منطلق الشعور بالأهلية، وإنما ينطلق من منطلق الشعور بالمسئولية، والقاعدة الأصولية تقول: (من عدم الماء تيمم بالتراب) .

فأسأل الله جل وعلا أن يغفر ذنبنا، وأن يستر عيبنا، وأن يتقبل منا وإياكم صالح أعمالنا، وأن يرزقنا الإخلاص والصدق في أقوالنا، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.

أيها الحبيب الكريم! إن التربية بالقدوة من أهم وأخطر وسائل التربية، وإننا نرى الآن كثيراً من شباب الأمة يتخبط في حيرة، يرى انفصاماً نكداً ورهيباً، لا يرى قدوة عملية بعدما صمت آذانه بكثير الكلام، وهنا يعيش كثير من شبابنا في هذا الصراع النفسي القاتل، لماذا؟ لأنه يسمع كلاماً ككلام جحا الذي صنع يوماً ساقية على النهر، تأخذ الماء من النهر فترد نفس الماء إلى نفس النهر، لم يكن عندنا غير هذا الأسلوب، والحمد لله كلكم أهل علم وأهل فهم.

أقول: كـ جحا الذي صنع ساقية على النهر، لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر، فتعجب الناس وقالوا: عجباً لك يا جحا! تصنع ساقية تأخذ الماء من النهر لترد نفس الماء إلى نفس النهر، فقال: جحا: يكفيني نعيرها، وهذا هو الواقع، يكفينا أننا نسمع هذا الصياح.

وهذا هو الواقع المر أيها الأحباب! أعني هذا الانفصام، بل إن شئت فقل: هذا الصراع النفسي الذي يعيشه كثير من شباب الأمة -لا أقول في مصر وحدها، بل في جميع أرجاء المعمورة- إنما هو نتيجة حتمية؛ لأن شباب الأمة يسمع ولا يرى، يسمع كلاماً كثيراً ولا يرى القدوة العملية الحية، ورحم الله من قال قديماً: مشى الطاوس يوماً باختيال فقلده بمشيته بنوه فقال علام تختالون قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه نرى طالب العلم جريئاً على الفتيا، نرى طالب العلم لا يحسن الأدب مع العلماء إلا من رحم الله جل وعلا؛ لأن طالب العلم يرى الآن رحى الصراع دائرة بين علمائه وشيوخه، وبين من يتلقى المنهج على أيديهم، هذا صراع نفسي، والله إني أعذر طلاب العلم حينما يرون هذا، فلذا أيها الأحباب! أقول: إن أعظم خطوة عملية نخطوها الآن لتصحيح المسار والمنهج، ولتصحيح الطريق إنما هي أن نقدم لشباب الأمة ولأبناء الأمة القدوة العملية، ليرى الشباب القدوة تتحرك بين أيديهم، يرونها بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، حينئذ لا ترى هذا الصراع النفسي القاتل المدمر.

فحينئذ قد يكون من اليسير جداً أن نقدم منهجاً نظرياً في التربية كساقية جحا بالضبط، ونقدم منهجاً دقيقاً محكماً، وكيف لا وسوف نقدم منهجاً نقول فيه: قال الله قال رسوله فعل السلف الصالح، منهج نظري دقيق محكم، ولم لا وهو قرآن وسنة وفعل سلف.

ولكن ليست العبرة بأن نقدم المنهج النظري فحسب، بل سيظل هذا المنهج حبراً على ورق ما لم يتحول إلى منهج عملي وواقع يتحرك في دنيا الناس، كل عالم نظري يقدم المنهج النظري، وكثير من طلبة العلم وشباب الأمة حافظين المنهج النظري، لكن المنهج هذا ليس له قيمة والعياذ بالله! ليس في ذاته وإنما في حياتنا لماذا؟ لأن المنهج سيظل حبراً على ورق مثل القوانين التي هي محبوسة في أدراج مجلس الشعب لتقنين وتطبيق الشريعة، حبر على ورق لا قيمة له، ليس في ذاته فهو الخير كله ولكن في حياتنا وواقعنا، سيظل المنهج حبراً على ورق إلى أن يتحول في حياة الناس إلى منهج عملي، وإلى واقع متحرك مرئي ومسموع ومنظور.

يا أخي! هب أن الله جل وعلا قد أرسل رسوله للناس ملكاً، فهل ينفع؟ لا ينفع.

لو جاء هذا الملك وصام رمضان ثلاثين يوماً، لقالوا: الحمد لله هذا ملك، ليس من خلقتنا، وليس من طينتنا، ولو جاء وصلى الخمس الصلوات في اليوم، لقالوا: الحمد لله هذا ملك، ولو جاء وأدى الأمانة وأدى جزئيات وأركان المنهج، وحولها إلى واقع لقال الناس: إنه ملك هيئ وأعد لهذا، أما نحن فلا نستطيع أن نفعل ما فعله، ولكن الله جل وعلا -وهو الحكيم الخبير- لم يرسل رسوله ولا نبيه إلا من جنس البشر: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الأنعام:٩] .

سبحان الله! لابد أن يكون من صنف البشر لماذا؟ حتى ولو جاء هذا الرسول ليحول المنهج التربوي الإسلامي إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة متحرك ومرئي ومسموع ومنظور، ويرى الناس بأعينهم، ويسمع الناس بآذانهم، يعرف الناس حينئذ أن هذا المنهج حق، حول في دنيا الناس إلى واقع؛ فيتبعونه بدون انفصام وصراع.

ومن هنا أرسل الله القدوة والمثل للعالمين جميعاً؛ ليحول هذا المنهج الرباني إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله سلم القدوة الطيبة والمثل الأعلى ليحول المنهج النظري إلى واقع، وقال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:٢١] .

أقول: أعظم وسائل التربية: التربية بالقدوة، متى يخرج الولد محباً للصلاة؟ إذا رأى أباه يصلي، وإذا رأى أمه تصلي.

متى تخرج البنت الصغيرة محبة للحجاب والعفة؟ إذا رأت أمها محبة للحجاب ملتزمة به.

متى يخرج الولد راقصاً؟ إذا رأى أباه راقصاً، وإذا رأى أمه عارية.

متى تخرج البنت مستهترة لا تعترف بفضيلة ولا تقدس إلا الرذيلة؟ إذا نشأت في بيت يحارب الفضيلة ويقدس الرذيلة، وهكذا كما ذكرت في أبياتي التي ذكرتها منذ قليل: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه لا يمكن على الإطلاق أن يتربى الولد على الصدق إذا رأى أباه كاذباً لا يمكن على الإطلاق أن يتربى الولد على الأمانة إذا رأى أمه تخون أباه لا يمكن على الإطلاق أن تتربى البنت على الفضيلة إذا رأت أمها مستهترة تحب الرذيلة!

<<  <  ج: ص:  >  >>