للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الواقعية في القصص القرآني وبيان ذلك في قصة يوسف]

يمتاز القصص القرآني والنبوي بأنه يعرض القصة الواقعية بكل صورها، وبكل ملامح حياتها، مع أنه لم يتخل في موقف واحد من مواقف القصة -من البداية إلى النهاية- عن الأسلوب الجميل النظيف الطاهر، وسأضرب لكم مثالاً واحداً بقصة قرآنية واحدة؛ لأدلل على أن القصة القرآنية ما تخلت في موقف من مواقفها، بل في كلمة من كلماتها، عن الأسلوب النظيف الطاهر الذي يهدف في النهاية إلى تربية القلب والعقل والروح والبدن إنها قصة يوسف.

وبالمناسبة فقصة يوسف هي القصة الوحيدة في القرآن الكريم كله التي وردت بكمالها وطولها في سورة واحدة؛ لأن القصص القرآن حتى وإن ورد في سور أخرى بكاملها فإنه يأتي مجملاً، ويأتي مختصراً، ولكن القصة الوحيدة التي وردت بالتفصيل في سورة واحدة هي قصة يوسف، فهي القصة الوحيدة التي تتجسد فيها كل ملامح الواقعية في كل شخصية، وفي كل موقف، بل وفي كل كلمة.

وقد عرضت القصة الصورة الشخصية الرئيسية وهي: شخصية يوسف عليه السلام، وبلغة الكتَّاب المعاصرين هو البطل، فعرضت القصة الشخصية الرئيسية بكل واقعية من أول لحظة إلى آخر لحظة، ابتداءً بفتنة الإلقاء في غيابة الجب، قال عز وجل: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:١١-١٢] .

وفي الأخير: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:١٥] .

ومروراً بفتنة البيع بثمن بخس: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:٢٠] .

ومروراً بفتنة التربية في بيت الملك: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:٢١] .

ومروراً بأعصف فتنة مرت بهذا البطل ذي الشخصية الطاهرة الكريمة، إنها فتنة الشهوة، وفتنة اجتماع النسوة عليه، وكانت الفتنة في أول الأمر تتمثل في امرأة واحدة، ثم بعد ذلك تضخمت الفتنة فاجتمعت عليه نسوة، فالتجأ إلى الله وقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:٣٣-٣٤] .

ومروراً بفتنة السجن: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ * وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف:٣٥-٣٦] إلى آخره.

ومروراً بفتنة الملك والوزارة مرة أخرى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:٥٤-٥٥] .

وبعد ذلك تنهي القصة الحديث عن هذه الشخصية الفذة، وعن هذا العبد الصالح، وكيف نجاه الله من كل هذه الفتن، وكيف نجاه الله من كل هذه المحن، وكيف خرج طاهراً من كل هذه الابتلاءات، وهي تسلط عليه الضوء وهو يضرع إلى الله جل وعلا بهذا الدعاء الخاشع الأواب المنيب: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:١٠١] .

ما تخلت القصة عن طابعها النظيف الطاهر في أي موقف من هذه المواقف أبداً، إنها قمة النظافة قمة الإبداع قمة الجمال التعبيري.

وبالإضافة إلى هذه الشخصية الرئيسية هناك شخصية الأب الملهوف، والنبي الموصوف، إنه نبي الله يعقوب على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قدمته القصة بكل واقعية منذ اللحظة الأولى حينما قال لولده يوسف: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:٥] ، ومروراً بحالة الخوف وهو يقول لبنيه: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:١٣] .

ومروراً بالحالة القاسية وهو يبكي بالليل والنهار ويقول لبنيه: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:٨٦] .

ويوصي أبناءه بالرجاء وأن ينطلقوا ليبحثوا عن أخيهم وعن ابنه الذي أحبه من كل قلبه: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:٨٧] .

وانتهاءً بهذا المشهد الكريم الذي تجسد فيه القصة فرحة هذا الأب الكريم حينما يأتي البشير ليلقي قميص يوسف على وجه يعقوب عليه السلام، فيرد الله إليه بصره: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:٩٦-٩٨] ؛ إنها قمة الواقعية! وجسدت القصة أيضاً صورة شخصية أخرى رئيسية، ألا وهي شخصية امرأة العزيز، بمنتهى الواقعية، ولم تتخل القصة عن الأسلوب الجميل الطاهر النظيف حتى في لحظات التعري النفسي والجسدي، يوم أن تقدمت المرأة وقد تجردت من كل حياء أنثوي، ومن كل كبرياء نفسي، ومن كل مركز اجتماعي؛ لتعلن عن شهوتها الجامحة بكل قوة وبكل جرأة وهي تقول: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:٣٢] .

وانظر إلى كيد المرأة الرهيب، وكيف فكرت في أن ترد الكيد والتهمة عن نفسها مع حفاظها على أن يبقى حبيبها أمام عينيها وبين يديها، فما أمرت بقتله وإنما أمرت بسجنه؛ ليظل أمام عينيها تراه حينما تريد، قالت: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} [يوسف:٢٥] فذكرت التهمة وحددت الجزاء: {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:٢٥] بكل واقعية تعرض القصة شخصية هذه المرأة، حتى في اللحظات الأخيرة وهي تعترف في تبتل وخشوع وهي تقول: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف:٥١-٥٣] .

وإلى جانب هذه الشخصيات هناك إخوة يوسف، فقد عرضتهم القصة أيضاً بكل واقعية، وعرضت كيف نما الحقد في قلوبهم، وكيف حجبت الكراهية قلوبهم وضمائرهم عن هذه الجريمة البشعة النكراء، وهم يلقون أخاهم في غيابة الجب، بل وهم يقولون في وجهه: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:٧٧] ، بل وهم يصرخون بين يديه ويعترفون بأن الله قد أعزه عليهم، وبأن الله قد رفع درجته عليهم {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:٩١] ، فيرد عليهم يوسف برحمة وشفقة وحنان: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:٩٢] إلى آخر كلماتهم في القصة، {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:٩٧-٩٨] .

وإلى جانب هذه الشخصيات هناك شخصية العزيز، وهناك شخصية الملك، بل وهناك البيئة التي جسدتها القصة تجسيداً دقيقاً حتى بملامحها التاريخية، ذلكم هو الإبداع الرباني والقرآني في القصة القرآنية؛ لأنه كلام الحق جل وعلا.

<<  <  ج: ص:  >  >>