للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[وسائل المنهج التربوي]

ثم تكلمت بعد ذلك عن وسائل التربية، وقلت: إن أعظم وسيلة من وسائل التربية: هي التربية بالقدوة، ونحن الآن في أمس الحاجة إلى هذا المنهج، وإلى هذه الوسيلة المتجددة، وكما قلت وأكرر عن عمد: كان ينبغي ألا يتحدث عن التربية بالقدوة إلا من توافرت لديه الأهلية علماً وعملاً، ولكن قد يتحدث المرء لا من منطلق شعوره بالأهلية، وإنما من منطلق شعوره بالمسئولية، والقاعدة الأصولية تقول: (من عدم الماء تيمم بالتراب) ويتردد في أذني في كل مرة وأنا أذكر أحبابي بالقدوة كأعظم وسيلة من وسائل التربية قول القائل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم وهناك يقبل ما تقول ويقتدى بالفعل منك وينفع التعليم فالله أسأل أن يغفر ذنبنا، وأن يستر عيبنا، وأن يرزقنا وإياكم الصدق والإخلاص في أقوالنا وأعمالنا.

الله جل وعلا علم أنه لن يتحول المنهج التربوي في حياة الناس إلا من خلال قدوة، فإن تقديم المنهج النظري ليس أمراً عسيراً، ولكن هذا المنهج التربوي النظري سيظل حبراً على ورق، ولن يساوي قيمة المداد الذي كتب به ما لم يتحول هذا المنهج التربوي في حياة الأمة إلى واقع، فإن المناهج النظرية تكدست في المكتبات، لكن ما هي النتيجة؟ هل الثمرة التي نقطفها الآن تساوي قيمة الكتب ومقدار المناهج التي قدمت طيلة السنوات الماضية؟ أقول بملء فمي: لا ورب الكعبة.

إذاً: لابد أن يتحول هذا المنهج النظري في حياتنا إلى واقع، إننا لا نريد بهذا الطرح التربوي مجرد الثقافة الباردة التي لا تتعامل إلا مع الأذهان، والتي لا تتعامل إلا مع التلذذ والاستمتاع بحسن البيان، وفصاحة الأسلوب، ودقة العبارة، وحسن عنصرة الموضوع، كلا، إننا لا نريد هذا، بل إن العقول قد كلت وملت من هذا، إنما الذي نريده وأنقله بقلبي وروحي ودمي إليكم أن نحول هذا المنهج النظري التربوي في حياتنا إلى واقع.

أين أخلاق الإسلام؟ أين الدين؟ إن أعظم خدمة نقدمها اليوم للإسلام هي أن نشهد للإسلام شهادة واقعية، عملية، أخلاقية، سلوكية، بعدما شهدنا له جميعاً من قبل شهادة قولية.

كلنا شهد الإسلام بلسانه، لكن من منا شهد الإسلام بسلوكه؟ من منا شهد الإسلام بأخلاقه؟ من منا قال للدنيا كلها: هذا هو إسلامي وهذا هو ديني.

أيها المسلم! قم ودثر العالم كله ببزدتك ذات العبق المحمدي، قم واسق الدنيا كأس الفطرة، لتروى بعد ظمأ، ولتحيا بعد موات، قم وأسمع العالم كله خفقات قلبك الذي وحد الله جل وعلا، قم وأظهر للدنيا كلها حقيقة إسلامك في صورة عملية وضّاءة مشرقة تتألق روعة وسمواً وجلالاً، إن عجزت أن تبين للدنيا كلها بلسانك حقيقة الإسلام، فلا تعجز عن ذلك بأفعالك، فإن الإسلام ما انتشر في المرحلة الأولى إلا عن طريق الرعيل الذي حول الإسلام في حياته إلى منهج حياة، وإن العالم اليوم كله يحكم على الإسلام من خلال واقع المسلمين المر الأليم.

لقد قرأت لعالم ألماني شهير أعلن إسلامه، وأراد أن يأتي إلى بلاد المسلمين ليملأ عينه بحقيقة الإسلام في صور عملية مشرقة، فحج إلى مكة، ورأى الناس في الحج، ورأى الصراع، ورأى القسوة، ورأى الغلظة، ورأى الفضاضة، ورأى القوي يريد أن يقتحم وينتقم من الضعيف، ورأى المرأة العجوزة الشمطاء تصرخ على الشاب القوي الفتي وتنادي عليه: أعطني شربة ماء فيأبى! وقد جاء ليحج بيت الله الحرام! ولقد رأيت بعيني رأسي في حج العام الماضي شاباً ضعيفاً وطئته الأقدام، وسقط تحت أرجل الفرسان الذين يطوفون حول بيت الله الرحيم الرحمن، وصرخ ولكن من الذي يغيثه؟! ومن الذي ينقذه؟! ومن الذي يمد إليه يد العون؟! فوطئته الأقدام حتى انفجر بطنه، ونجس الصحن بأكمله! هذا الرجل لما رأى هذه الصور المؤلمة لحقيقة المسلمين قال قولته المشهورة: الحمد لله الذي عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين.

وهذه حقيقة مرة جداً، ولا ينبغي أن ندفن رءوسنا في الرمال كالنعام وننكرها، فهذا ليس حلاً، وإنما الحل أن نشخص الداء لنستطيع أن نحدد الدواء بدقة، فإن تحديد الدواء يتوقف تماماً على تشخيص الداء، وإلا لو ذهبت إلى طبيب وصرف لك دواءً لا يتفق مع دائك فربما يأتي الضرر.

إذاً: التربية بالقدوة من أعظم وسائل التربية، فلا يمكن أن تربي ابنك على الصدق وأنت تكذب أمامه، ولا يمكن أن تتربى البنت على الفضيلة وهي ترى أمها تخون أباها! ولا يمكن أن تتربى الفتاة على الطاعة وهي ترى أمها لا تسمع ولا تطيع أباها، فأعظم وسيلة للتربية هي التربية بالقدوة.

مشى الطاووس يوماً باختيال فقلد مشيته بنوه فقال على ما تختالون قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه ولا أريد أن أطيل في هذا، ووالله لا أمل التكرار والتذكرة بهذه الوسيلة فإنها بلا منازع من أعظم وسائل التربية التي يجب على كل معلم، وعلى كل والد، وعلى كل أم، وعلى كل أخت، وعلى كل من ولّاه الله أمانة التربية أن يحول المنهج التربوي في حياة تلاميذه وطلابه وأبنائه إلى واقع ليتعلم أبناؤه هذا المنهج من خلال القدوة.

<<  <  ج: ص:  >  >>