للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[نبي الرحمة يطلق ثمامة]

من أجمل ما ثبت في هذا الباب: ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بعث خيلاً قبل نجد -بعث سرية من أصحابه- فجاءت هذه السرية برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، وكان من أعدى أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتفنن في إيذائه، ويتفنن في تأليب القوم على النبي وعلى الإسلام، فلما أسره أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام انطلقوا به إلى المسجد النبوي، فربطوه في سارية من سواري المسجد حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام المسجد، فوجد ثمامة بن أثال مربوطاً في عمود من أعمدة المسجد النبوي؛ فاقترب الحبيب المصطفى من عدوه برحمة وود، وقال: (ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي خير يا محمد؛ إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال؛ فسل تعطَ من المال ما شئت) ، وهذا رد فيه قوة.

الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: (ماذا عندك يا ثمامة؟) قال: عندي خير: (إن تقتل تقتل ذا دم) يعني: إن قتلتني اعلم بأنك ستقتل رجلاً له قوة وقبيلة وعشيرة، ولن تدع دمه يضيع هدراً على الإطلاق، (وإن تنعم تنعم على شاكر) يعني: إن أحسنت إليّ وأنعمت علي، وأطلقت سراحي فلن أنسى لك هذا الجميل أبداً ما حييت.

(سل تعطَ من المال ما شئت) أي: إن كنت تريد مالاً فسل تعط، فتركه الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر بقتله، وهو عدوه!.

وفي غير رواية الصحيحين: (أمر النبي الصحابة أن يحسنوا إليه) ؛ لكن لحكمة نبوية أبقى النبي ثمامة في المسجد؛ ليطلع بنفسه على حال النبي مع أصحابه، وليسمع القرآن غضاً طرياً من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعايش الإسلام؛ لأن المسجد كان بيئةً حيةً للدين كله: (فدخل عليه في اليوم الثاني فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دمٍ، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد مالاً؛ فسل تعطَ من المال ما شئت.

فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دخل عليه في اليوم الثالث وقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال؛ فسل تعطَ من المال ما شئت؛ فقال صاحب الخلق الكريم: أطلقوا ثمامة) .

أطلقوه، لا نريد مالاً ولا شكوراً ولا ثناءً.

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا ثمامة سيد أهل اليمامة، سيد قومه، رجل عربي أصيل، لما أطلق النبي سراحه؛ انطلق إلى بستان نخل قريب من المسجد النبوي فيه بئر، فاغتسل ثم عاد مرة أخرى إلى المسجد النبوي، فوقف بين يدي الحبيب صلوات الله وسلامه عليه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.

اسمع وأصغ للحوار الجميل الذي دار بين ثمامة وبين النبي عليه الصلاة والسلام، نظر ثمامة إلى النبي فقال له: (والله ما كان على وجه الأرض وجهٌ أبغض إلي من وجهك -مصارحة شديدة- فأصبح وجهك الآن أحب الوجوه كلها إلي -صلى الله عليه وسلم-، والله ما كان دين على وجه الأرض أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك الآن أحب الدين كله إلي، والله ما كان على وجه الأرض بلدٌ أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك الآن أحب البلاد كلها إليّ.

يا رسول الله! لقد أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة) .

ذهب يعتمر على شركه، وكانوا يلبون، ويحجون، ويعتمرون، ويقولون: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) ، سبحان الله قال له: (لقد أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، فبماذا تأمرني؟) فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ ابن حجر: (فبشره) أي: بالجنة، أو بمحو السيئات؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، ولأن التوبة تجب ما قبلها؛ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر.

وفي رواية مسلم: (أنه أول ما وصل إلى مكة لبى، وجهر بالتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) .

ففزع القوم! من هذا الذي يتحدانا ويعلن التوحيد بهذه الصورة؟! أول من جهر بالتلبية في مكة هو ثمامة بن أثال.

فتساءلوا: من الذي لبى بمكة معلناً للتوحيد برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم؟ اقترب منه المشركون وقالوا: أصبأت -يعني: أكفرت؟ - قال: لا، بل تبعت محمداً صلى الله عليه وسلم على دينه، ثم قال: والله لا تصل إليكم بعد اليوم حبة حنطة -يعني: حبة قمح- إلا أن يأذن فيها رسول الله.

وانظر إلى هذا الرجل حين أسلم؛ بدأ يُسخِّر كل طاقاته، وقدراته، وإمكاناته لدين ربه جل وعلا، يوم أن خلع على عتبة الإيمان رداء الشرك والكفر؛ وظَّف كل ما يملك لدين الله سبحانه وتعالى، ففرض حصاراً اقتصادياً -على سبيل التحقيق لا على سبيل المجاز- على مكة وأهلها.

وفي رواية ابن إسحاق: (حتى اشتدت المجاعة بهم بالفعل) ؛ لأن القمح كان يصل إليهم من اليمامة، وهو سيد أهل اليمامة؛ فمنع كل حبة قمح تصل إلى مكة وأهلها، إلا بعد أن يأذن رسول الله.

يقول ابن هشام في روايته: (حتى أكل أهل مكة العلهز) ما هو العلهز؟ العلهز صوف يشوى، ويضاف إليه بعض الأشياء، يؤكل في وقت المجاعات حين لا يوجد شيء، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنك تدعو إلى صلة الرحم، وتأمر بصلة الرحم، وأنت قد قطعت أرحامنا حينما أمرت ثمامة بن أثال؛ فاؤمر ثمامة بن أثال ألا يحول بيننا وبين الميرة؛ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة بن أثال وقال: خلِّ بينهم وبين الميرة.

انظر كيف حول إحسان النبي صلى الله عليه وسلم البغض الكامن الدفين في قلب ثمامة إلى حب مشرق، فبالإحسان تأسر القلوب، وبالرفق وباللين تحول البغض إلى حب، وتحول الكراهية إلى قرب.

فالعنف يهدم ولا يبني، والشدة إذا استخدمت في غير موضعها تفسد ولا تصلح، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) .

انظر إلى إحسانه وأخلاقه الكريمة مع ثمامة، ما قال: اذبحوه، اقتلوه، اصلبوه، عذبوه، فهو هو، وإنما أمر الصحابة رضوان الله عليهم أن يحسنوا إليه؛ وتأثر هذا الرجل بالإحسان، وهذا هو شأن أهل الكرم في كل زمان.

<<  <  ج: ص:  >  >>