للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[كسر القرآن لعناد الكفر واستكباره]

بل واعلم معي أن الإمام البخاري رحمه الله تعالى قد روى في كتاب التفسير في الصحيح -في باب قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:٦٢]- حديثاً مختصراً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (سجد النبي صلى الله عليه وسلم بسورة النجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن) .

ما القصة؟ إنها قصة عجيبة: سجد النبي وسجد المسلمون وهذا وارد، لكن: والمشركون كيف ذلك؟ هذا حديث له قصة: ففي السنة الخامسة من البعثة، دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيت الله الحرام، وكان في بيت الله الحرام في هذا الوقت مجموعة كبيرة من سادة المشركين وكبرائهم، وقام النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لله جل وعلا، وافتتح النبي صلاته بسورة النجم: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:١-٥] إلى آخر السورة.

وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر سورة النجم آيات تطير لها القلوب: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:٥٩-٦٢] ، وخر النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً لله، فلم يتمالك أحد من المشركين نفسه؛ فخر ساجداً خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو السر الحقيقي الذي ربما يجهله كثير من أحبابنا وإخواننا، هذا هو السر الذي جعل المسلمين الأوائل الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة يعودون مرة أخرى إلى مكة بعد هجرتهم الأولى؛ فإنهم لما وصلهم الخبر بأن المشركين قد سجدوا خلف رسول الله، ظنوا أنهم قد دخلوا في دين الله عز وجل فرجعوا، لكن المشركين لما رفعوا رءوسهم أنكروا ما فعلوه! وأنكروا ما صنعوه! لكنه القرآن الذي صدع عناد الكفر والكبر في قلوبهم؛ فسجدوا لله تبارك وتعالى خلف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقرآن له فصاحته! وله روعته: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} [الحشر:٢١] ، هذا القرآن لو أنزله الله على جبل لخشع وتصدع من خشية الله سبحانه وتعالى، فالقلوب تخشع للقرآن إن أنصتت القلوب إليه، وإن أصغت الآذان إليه.

واعلم أخي الحبيب بأن كل أحد يأخذ من القرآن على بقدر ما أراد الله له أن يأخذ منه، فأنت تأخذ من القرآن، وأنا آخذ من القرآن، والعامل البسيط يأخذ من القرآن، وعالم الذرة يأخذ من القرآن، والكيميائي في معمله يأخذ من القرآن، وكل واحد يأخذ من القرآن على قدر ما فتح الله على العبد، وعلى قدر استقبال العبد لكلام ربه سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤] .

أيها الأحبة! كان لا بد من هذه المقدمة قبل أن أبين كيف وصل إلينا القرآن الكريم.

فلما بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم، بدأت آيات القرآن الكريم تتنزل تترا على قلب نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، بعدما خاطبه ربنا على لسان جبريل بقوله: {اقْرَأْ} [العلق:١] ، ثم نزلت الآيات: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:١-٢] {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:١-٢] .

فقام سيدنا رسول الله، ووالله لم يذق طعم الراحة حتى لقي سيده ومولاه! وبدأت الآيات تتنزل، فكان ينزل أمين وحي السماء جبريل على أمين أهل الأرض سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بآيات القرآن الكريم، وكان من حرص النبي صلى الله عليه وسلم وشغفه على أن يسمع القرآن، أنه كان يتعجل في القراءة، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:١٦-١٨] ، (فإذا قرأناه) أي: على لسان جبريل.

<<  <  ج: ص:  >  >>