للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[فتنة القول بخلق القرآن وصمود أحمد بن حنبل]

لما وقعت فتنة القول بخلق القرآن تمكنت في آخر القرن الثاني، ولكن ما اشتهر الإلزام بها إلا في أول القرن الثالث، وذلك لأن الخليفة المأمون انخدع ببعض المعتزلة فقربهم، ومن أشهر من قربه أحمد بن أبي دؤاد، وكان لسناً جريئاً في الكلام قوي الحجة، عنده من الجرأة والفصاحة والبلاغة ما جعله يكون محلاً للثقة، فوثق به الخليفة المأمون، ولما وثق به قربه وولاه القضاء، وصار وزيراً له وجليساً، فكان من جملة ما دعا الخليفة إليه أن يبين له أن هذا القول من واجب المسلمين ومن عقيدتهم، وأن الذي يقول: إن الله متكلم فقد شبه الله تعالى بالمحدثات، ويكون بذلك كافراً.

حتى أدى الأمر إلى أن قتل كثير من أهل السنة بسبب تصلبهم في هذا الأمر وعدم امتناعهم من القول بخلق القرآن، وكان من جملة الذين تصلبوا وصبروا إمام أهل السنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فأصر على أن يصبر على الحبس والضرب، فضرب وجلد جلدات، ولما استدعاه المأمون دعا الله ألا يريه وجهه، فمات المأمون قبل أن يصل إليه، ولكنه أوصى أخاه المعتصم بأن يستمر في هذه الفتنة، فاستمر فيها، وحبس الإمام أحمد وبقي سجيناً مدة طويلة، وجلد جلدات كثيرة، ولكنه تصلب وصبر.

ثم جاءه بعض المعتزلة وقال: يا أحمد! قل في أذني إن القرآن مخلوق وأنا أخلصك من هذه الأنكال وهذه الأغلال ومن هذا العذاب.

فقال له أحمد: قل في أذني: إن الله متكلم، وإن القرآن كلام الله وأنا أشفع لك عند الله وأشهد لك بأنك من المؤمنين بكلام الله.

ومن جملة ما احتج به عليهم من الأدلة أن كلام الله تعالى لا يمكن أن يتغير، فقرأت في بعض التراجم أنه جيء به وقيل له: هل رأيت رؤيا؟ فقال: نعم، رأيت رؤيا.

قالوا: ما هي؟ قال: رأيت كأني قمت لأصلي، فقرأت في الركعة الأولى بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:١] ، فلما قمت للركعة الثانية أردت أن أقرأ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:١] فلم أقدر، فالتفت فوقي وإذا القرآن ميت، فعند ذلك أخذته وغسلته وكفنته.

فقال المعتصم ومن حوله: وهل القرآن يموت؟! فقال: أنتم تقولون: إن القرآن مخلوق، وكل مخلوق يموت.

فعرفوا أن هذه حجة عليهم، يقول: لو كان القرآن مخلوقاً فالمخلوق يموت ويأتي عليه العدم، فإذا أنكرتم هذه الرؤيا فأنكروا قولكم: إن القرآن مخلوق.

والرؤيا التي ذكرها رأيتها مكتوبة، فيمكن أنها أيضاً مطبوعة في بعض الكتب المطولة كترجمة الإمام أحمد المطولة لـ ابن الجوزي وغيرها.

فعلى كل حال القرآن كلام الله تعالى حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف.

<<  <  ج: ص:  >  >>