للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مذاهب أهل القبلة في أفعال العباد]

أهل القبلة في أفعال العباد ثلاثة مذاهب: مذهب المعتزلة الذين ينكرون قدرة الله على أفعال العباد.

ومذهب الجبرية الذين ينكرون قدرة العبد على فعله ويسلبونه أية حركة.

ومذهب أهل السنة الذين يثبتون القوة والقدرة العامة لله تعالى، ويثبتون للعبد قدرة تناسبه مسبوقة بقدرة الله تعالى.

وقول المعتزلة يسمونه عدلاً، وذلك لأنهم توهموا أن الله إذا خلق المعصية في العبد ثم عاقبه عليها صار ظلماً، فلأجل ذلك قالوا: العبد هو الذي يهدي نفسه أو يضل نفسه، والله لا يقدر على أن يهدي ولا يضل.

فكانوا بذلك مفضلين قوة العبد على قوة الرب، وعندهم أن العبد يعصي ربه قسراً عليه وقهراً، وأن الله يُعصى قسراً، هذا قول المعتزلة.

وأما الجبرية فهم الذين سلبوا العبد قدرته واستطاعته، ولم يثبتوا له أية قدرة.

وقول أهل السنة وسط بينهما، أن للعباد قدرة على أفعالهم، وأن لهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، وبهذه القدرة التي أعطاهم الله كلّفهم وأمرهم ونهاهم، وما كلفهم إلا وهم قادرون، وما أمرهم إلا وهم مستطيعون.

وفي المسألة بغير شك شيءٌ من الخفاء، ولأجل ذلك يقول الطحاوي في عقيدته: (القدر سر الله في خلقه) ، بمعنى أن هذه القدرة التي مكّن الله بها العبد وكلّفه بها خفيَّة، فلأجل ذلك صار القدر سراً، أي: سر الله في خلقه.

وقد تكلّم العلماء على هذه المسألة، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسائل في هذا الباب مطبوعة في الجزء الثامن من مجموع فتاويه، ومنها رسالة بعنوان (أقوم ما قيل في القضاء والقدر والتعليل) .

ولتلميذه ابن القيم كتاب كبير اسمه (شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل) ، وهو أوسع من تكلم في هذه المسألة، وبيّن القول الفصل فيها، وجمع بين الأدلة، وذلك لأنه قد يتوهم في الأدلة شيءٌ من المخالفة؛ لأن المشركين يحتجون بالقدر على المعاصي، فيقولون {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:١٤٨] ، {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا} [النحل:٣٥] ، {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس:٤٧] ، فأنكر الله تعالى عليهم هذا الاحتجاج، ومع ذلك يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:١٤٩] ، ويقول: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:٤] ، ويقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس:٩٩] ، فكل ذلك دليل على أنهم لا يخرجون عن مشيئته ولا إرادته، ثم ذكر العلماء أن الإرادة في كتاب الله على نوعين: إرادة قدرية، وإرادة شرعية.

وأن الإرادة القدرية هي التي يلزم وقوع المراد بها، ولكن قد يكون المراد بها محبوباً وقد يكون غير محبوب، فنقول: كل ما يحصل في الوجود فإنه مراد لله كوناً وقدراً، الطاعة والمعاصي، والخلق والرزق، والتدبيرات والحوادث التي تحدث في الدنيا كلها قد أرادها الله كوناً وقدراً، ولو شاء لم تحصل، ولهذا قال عن عمل السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:١٠٢] يعني: بإذن الله الكوني القدري، ليس الديني الشرعي.

لأن الله تعالى حرّم عمل السحر وتوعّد عليه، ومع ذلك السحرة لا يفعلون شيئاً من قبل أنفسهم ولو أضروا من أضروا وحصل من الإضرار ما يحصل به، فإن ذلك مراد لله لا يخرج عن إرادته، فنقول: لا يحصل قتل في الدنيا إلا بإرادة الله الكونية، ولا تحصل معصية من زنا أو سرقة أو أكل مال حرام أو كسب حرام لا يحصل شيءٌ من ذلك إلا وقد أراد الله وجوده إرادة كونية قدرية، ولكن لا يلزم أن يكون محبوباً لله تعالى، وكذلك كل ما يحصل في الوجود، ومن تعبيراتهم أن يقولوا: لا يكون في الوجود إلا ما يريد.

أي: إرادة كونية قدرية، أن قدر الله أنه سيحصل كذا وكذا، وكل ما قدره كوناً فإنه -ولا بد- حاصل، وهو مراد لله كوناً وقدراً.

أما الإرادة الدينية الشرعية فهي التي تستلزم محبة المراد، ولكن لا تستلزم وقوعه، فنقول: الله أراد من الخلق كلهم أن يسلموا، فهل أسلموا كلهم؟ أسلم من هداه الله وسدده، ولم يسلم من خذله وحرمه، والله أراد من الجميع أن يدخلوا في الإسلام، هذه إرادة دينية شرعية، لكن المراد ديناً وشرعاً محبوب إلى الله، فنقول: الله يريد منا الإسلام ويحبه، يريد منا الصلاة ويحبها، ويريد منا أن نذكره ويحب ذلك، ويريد منا أن نتلو كتابه ويحب ذلك، ويريد منا أن نطيعه ونطيع رسله ونتبعهم، ويريد منا أن نؤمن به ونؤمن برسله، ويريد منا أن نذكره ونسبحه وندعوه ونخلص له الدين وحده، ويريد منا أن نتصدق ونزكي ونصوم ونجاهد ونصبر ونصدق ونحو ذلك، يريد ذلك منا إرادة دينية شرعية، يريدها من الجميع، ولكن قد تحصل من هذا ولا تحصل من هذا، مع أنه أراد من الجميع أن يكونوا صادقين وصابرين وقانتين مخبتين منيبين تائبين عابدين، يريد منهم ذلك كلهم، ولكن منهم من تتحقق منه هذه الإرادة فتجتمع فيه الإرادتان الدينية الشرعية والكونية القدرية، فنقول: إيمانك -أيها العبد الصالح- وصلواتك وعباداتك التي حصلت اجتمعت فيها الإرادتان: الإرادة الدينية والإرادة الكونية.

وكفر هذا الكافر ومعصيته انفردت فيه الإرادة الكونية، وإيمان الكافر وطاعته انفردت فيه الإرادة الدينية ولم تحصل له الإرادة الكونية، فلو أراد الله إيمان الكافر كوناً وقدراً حصل، لكنه أراده ديناً وشرعاً ولم يرده كوناً وقدراً، فنتفطن للفرق بين الإرادتين، فهذا المراد بأفعال العباد.

<<  <  ج: ص:  >  >>