للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[معنى المعيشة الضنك الحاصلة للكافرين]

ذكر المؤلف آية أخرى في سورة طه هي قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٢٤] ، المعيشة الضنك قيل: إنها عذاب القبر.

وقيل: إنها في الدنيا.

ولكن هل كل من أعرض عن ذكر الله تعالى في الدنيا تكون معيشته ضنكاً؟ ليس كذلك، نشاهد ويشاهد من قبلنا أن كثيراً من المعرضين والكفار يعطون نعيماً في الدنيا ويتوسعون في المآكل والمشارب والمساكن والملابس والمراكب والفرش، ويؤتى عليهم بما يتمنونه من الأغذية والمشتهيات والفواكه والمستلذات والمآكل بأنواعها من اللحوم والخبز وما أشبهها، فأين المعيشة الضنك والله تعالى يقول: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:١٢٤] ؟! إذاًَ هي في البرزخ، يلقى ضنكاً في البرزخ ولو لم يكن محتاجاً إلى المعيشة؛ لأن الأرواح في البرزخ لا تحتاج إلى غذاء ولا إلى أكل فالأكل خاص بالبدن، فتكون المعيشة هنا معناها اللذة والسرور، أو الهم والغم والتضييق والأذى والعذاب الذي تلاقيه تلك الأرواح، وهكذا اختار المؤلف أنه قبل فناء الدنيا لهم معيشة ضنك ثم يقول الله تعالى بعد ذلك: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:١٢٤] ، فذكر أنهم يحشرون في الآخرة على هذه الحال، يعني: قد فقدوا بصائرهم، فبين أن المعيشة الضنك التي قال الله: إنها لهم جزاء إعراضهم تكون قبل يوم القيامة؛ لأنه قال: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [طه:١٢٤] ، فتبين أن المعيشة إما في الدنيا وإما في البرزخ.

ونحن نعاين اليهود والنصارى والمشركين في الدنيا في عيش رغيد ورفاهية في المعيشة وسعة في الرزق، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) بمعنى أن الكافر يعطى فيها ما يتمناه فكأنه في جنة، وأما المؤمن فإنه لا يأخذ منها إلا ما يقوته وما يعبر به حياته، فكأنه في سجن.

ويقول الله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} [الزخرف:٣٣] ، والسقف: ما يسقف به البيت من فضة، {وَمَعَارِجَ} [الزخرف:٣٣] ، يعني: السلم من فضة، {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} [الزخرف:٣٣-٣٤] يعني: من فضة {وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:٣٤] جمع سرير، {وَزُخْرُفًا} [الزخرف:٣٥] يعني: ذهباً، {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:٣٥] ، فالحاصل أن هذه الآية دليل على أن المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر.

فإذا نظرنا إلى معيشتهم وما هم فيه من السعة علمنا أنه لم يرد ضيق الرزق في الحياة الدنيا؛ لوجود كثير من المشركين في سعة من أرزاقهم، وإنما أراد بعد الموت وقبل الحشر، أي: عذاب القبر.

فتكون هذه الآية دليلاً على إثبات عذاب القبر.

ومن الأدلة التي ذكرها ابن القيم قول الله تعالى في سورة السجدة، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:٢١] ، فالعذاب الأدنى فسر بأنه عذاب القبر.

ومن الأدلة قوله تعالى في سورة التوبة: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:١٠١] ، (مرتين) قيل: مرة في الدنيا ومرة في البرزخ، ثم يكون العذاب في الآخرة.

وآيات أخرى استند إليها ابن القيم وبين أنها دالة عليه وإن لم تكن صريحة.

<<  <  ج: ص:  >  >>