للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الإخلاص هو المعيار والمقياس لتمييز الأعمال]

الإخلاص لله هو معيار باطن الأعمال الدقيق، ومقياسها الصادق الذي يميز طيبها من خبيثها، وصحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، ونافعها من ضارها: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:٦٥] .

ولما غاب الإخلاص في حياة الكثير من الناس اليوم، ظهر الشرك والرياء والمراءاة والشهرة، بل الغش والخداع والاحتيال والكذب، والتزلف والتلون، والعجب والكبر، والغرور والمداهنة والنفاق -نعوذ بالله من سيئ الأخلاق-.

أيها الإخوة! أين النفوس التي تشتكي قسوة القلوب؟ أين القلوب التي تعلقت بالمخلوقين؟ أين القلوب المريضة التي امتلأت حسداً وانتقاماً؟ عليكم بالإخلاص فإنه شفاء لأدواء القلوب كلها، أي والله! فقلب ذاق الإخلاص لا يعرف الغل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم، وذكر منها: إخلاص العمل لله) .

يا طلاب العلم! أيها الدعاة! أيها المعلمون والمعلمات! يا كل العاملين والعاملات! أخلصوا لله وسيروا على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واصدقوا وابذلوا النصح وتناصحوا وتسامحوا وليعذر بعضكم بعضاً، ثم لا يضركم بعد ذلك من خالفكم، أو تعرض لكم من الجراحين الذين لا يضعون إلا على الجروح، بل لا يغركم إن لم يستجب لكم.

نعم.

اتهموا أنفسكم، وراجعوا إخلاصكم، فأن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه أحد؛ المهم أحسنوا البلاغ واصبروا، وحسبكم أن الله يراكم ويعلم ما في نفوسكم، ورددوا {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣] .

يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان: (فإن في القلب فاقةً لا يسدها شيء سوى الله، وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده) إلى أن قال: فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها وتصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين إلى آخر كلامه - نسأل الله الكريم من فضله-.

إخوة الإيمان! رجلان بجوار بعضهما، يصليان صلاة واحدة، وخلف إمام واحد، وبينهما كما بين الأرض والسماء.

فلا إله إلا الله! كم من عمل صغير تكبره النية، وكم تبلغ مجرد النية بأصحابها ولو لم يعملوا (إن ب المدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حبسهم العذر) وفي رواية: (إلا شركوكم في الأجر) كما في الصحيحين.

وهذا والله هو الفضل أن تثق بنيتك، أن تنوي الخير وتسبق بنيتك، فلا تحرم نفسك هذا الفضل العظيم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنه انقطع طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي كان ذلك حسنات له فهي لذلك أجر، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخراً ورياء ونواءً لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر) كما في الصحيحين.

الله أكبر! الخيل دابة لهؤلاء الثلاثة، ولكن النية هي التي جعلت أحدهم يربطها فيؤجر، والآخر يربطها فيأثم، والآخر يربطها فلا يؤجر ولا يأثم.

قال معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! أوصني، قال صلى الله عليه وسلم: أخلص دينك يكفك القليل من العمل) .

نعم.

فلم يسبق من سبق بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما بشيء وقر في قلوبهم، فلنفتش عنه في قلوبنا لنذوق طعم السعادة، جنة الدنيا، فإن في الدنيا جنةً من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة -نسأل الله الكريم من فضله-.

نعم معاشر الإخوة! كم نغفل عن أعمال القلوب!! وهي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد من الأعضاء، الذي إذا فارق الروح فموات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، بل هي آكد وأرجح، وهل يميز المؤمن من المنافق إلا بما في قلب كل منهما؟!! إنه الإخلاص رفع الله به قوماً، ووضع بتركه آخرين، فوصيتي لنفسي ولك أخي: أخلص الأعمال لله، واصدق في الأقوال من أجل الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>