للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أمور يجب التنبيه عليها في مسألة الإخلاص]

إخفاء الأعمال علامة على الإخلاص لكنه ليس شرطاً للإخلاص، المهم ألا تقصد نظر الناس إليك، ولا يهمك نظرهم وقولهم، فالإخلاص استواء الظاهر والباطن -كما تقدم-، بل ربما كان إظهار العمل خير من إخفائه، كمن سن سنةً حسنةً، والله تعالى يقول: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:٢٧١] .

وأيضاً: ليس من الرياء نشاط العبد للخير عند مجالسة الصالحين، فإن مجالستهم تبعث على النشاط وعلو الهمة، فليكن عملك لله وليس لهم وإن كانوا سبباً في تشجيعك للعمل.

لكن احذر الكسل على الدوام، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [للمرائي علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثني عليه، وينقص إذا ذم به] .

ومنها -أيضاً- من الأمور التي يجب التنبه عليها: ثناء الناس ومدحهم لا ينافي الإخلاص، بل قد يكون عاجل بشرى المؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، لكن إياك أن يكون العمل طلباً للثناء، أو حتى انتظار الثناء من المخلوقين، أو أن تغتر بالثناء، فالمخلص يفر من الشهرة، ولكن الله يضع له القبول في الأرض فيسر العبد بفضل الله، وأما المرائي فيركب الصعب والذلول ليحظى بالقبول، لكن هيهات هيهات! قال ابن رجب: (وهنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس، يريد بذلك أن يُري الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبّه عليه -السلف الصالح-.

قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: [كفى بالنفس إطراءً أن تذمها على الملأ كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفح] انتهى كلامه.

ومنها أيضاً: أنه ليس معنى الإخلاص أنك لا تذنب ولا تخطئ.

تنبهوا أيها الإخوة لهذه المسألة! ليس معنى الإخلاص أنك لا تذنب ولا تخطئ، فكل بني آدم خطاء.

من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط

ولكن أن يستوي الظاهر والباطن، وتجاهد نفسك لترضي الله، فيكون لك عمل صالح بالسر، كما كان لك ذنب بالسر، وأن تتوب وتستغفر سراً، كما عصيت وأذنبت سراً، أو تكتم حسناتك كما كتمت سيئاتك.

لكن المصيبة أن تظهر الخير وتبطن الشر، ومصيبة المصائب من يظهر الشر ويجاهر بالمعصية، ويمتنع عن الخير بحجة الهروب من النفاق، كمن يعمل السوء ويحلق لحيته حتى لا يظن الناس فيه خيراً، فيكون منافقاً زعم، وهذا من الفقه الذي فتح به إبليس على المفاليس، فإن كتمان الذنوب أمر مندوب (وكل أمتي معافى إلا المجاهرون) .

وكما قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما نسأل الله أن يعافينا وإياكم منهما.

ومن علامات عدم الإخلاص: أن يميل حيث مال هواه.

فاحذر الهوى أخي الحبيب! وأن يتشبث بالمنصب والرئاسة، وأن يستعبده الدرهم والدينار.

قال ابن القيم رحمه الله: وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تتحول، أن يلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوب الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به.

انتهى كلامه.

والمؤمن من جمع بين الإحسان وسوء الظن بالنفس، والمغرور من جمع بين الإساءة وحسن الظن بالنفس، ولا يجتمع الإخلاص والغرور، فالغرور قتّال وكذا حب الشهرة والظهور فهو يقصم الظهور.

واسمع لهذا الكلام النفيس لـ ابن القيم وتأمله جيداً، يقول رحمه الله: لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص؛ فإن قلت: وما الذي يسهل عليّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك، علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه، إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه، وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس هناك أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده إلى آخر كلامه رحمه الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>