للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حقيقة الاتباع]

أيها الإخوة! ديننا دين الإسلام مبني على الوحي والنقل الصحيح، فما جاءنا من أمر ونهي في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب علينا قبوله والمبادرة إلى امتثاله فعلاً كان أو تركاً.

أو ليس الإسلام هو الاستسلام لله والانقياد له؟ يجب إن كنا نردد أننا مسلمون مستسلمون لله منقادون لأوامره وأحكامه، يجب إذاً على كل مسلم ومسلمة ألا يقدم على شيء من شئون حياته، إلا ويسأل أهو موافق لأمر دينه أم لا؟ هذا لا بد منه، لابد أن نحيي هذا بيننا أيها الإخوة، كلما أردت أن تقدم على أمر، اسأل هل هذا موافق لدين الله أم لا؟ وهذه حقيقة الاتباع، فالإسلام دين التمام والكمال، فكل ما يحتاجه الناس في أصول الدين وفروعه، وفي أمور الدنيا والآخرة جاءت الشريعة ببيانه وإيضاحه، كما أخبر الله تعالى فقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:٨٩] ، وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:٣] فهل يصح بعد هذا أن يُترك المجال للهوى أو للعقل والفكر ليتخبط في التشريع ورسم طريق الأمة؟ ثم هب أنه كان ذلك، فأي عقل سنستجيب له؟! وأين ذلك العقل الذي سلم من الهوى وحظوظ النفس، فضلاً عن فساده وضلاله؟! ثم لو سلمنا بسلامة تلك العقول ونصحها وحبها الخير للناس، فهل ستتفق العقول كلها على منهج وطريق واحد؟! {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء:٢٢] .

إذاً: فنحن نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ومع ذلك لا ندعو لتهميش العقل أو الحجر عليه، أو الجمود وعدم التفكير والإبداع، كما يقول المهوشون المشوشون؛ بل لك ذلك كله، فقد كرم الله الإنسان وفضله بالعقل، وامتدح في كتابه ذوي الألباب فقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:١٩] وقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:٢٩] .

لكن بضوابط نصوص الوحيين التي هي من الخالق لكل شيء، ومن مخلوقاته العقل.

فهل يعترض العقل على خالق من بعض مخلوقاته العقل

ولا معارضة أبداً بين العقل السليم والنقل الصحيح، -انتبهوا- لا معارضة أبداً بين العقل السليم والنقل الصحيح، وما لا يفهمه العقل مما صح فلا ينسف ويرد أو يعطل أو يحد، بل يجب فيه التسليم والخضوع، فللعقل حدود وللشرع حمى وسدود؛ ولكن بعض الناس تعدوا الحدود وحطموا السدود، فلم يبقوا العقل في المكانة التي وضعه الله تعالى فيها، بل زلوا فيه على صنفين: ١/ صنف عطله ولم يقم له وزناً، فعبدوا الأشجار والأحجار والأوثان.

٢/ وصنف بالغ فيه وجعله مصدراً للتشريع وقدّمه على النقل الصحيح، غفل هؤلاء عن أن للعقول حدوداً تنتهي في الإدراك إليها، وأن الله تعالى لم يجعل لها سبيلاً إلى إدراك كل شيء، كما غفل أولئك أن الله حافظ دينه، وعاصم نبيه من الزلل والانحراف في تبليغ دينه، والله تعالى أمرنا بالتسليم لحكمه، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً مطلقاً، لا بمحاكمة النصوص إلى العقول قبل التسليم بها كما قال تعالى -وتنبهوا لهذه الآية التي يغفل الكثير من المسلمين عنها لما يقدم الهوى على قال الله وقال رسوله-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:٦٥] لا يوجد في أنفسهم حرج، لا يوجد في أنفسهم تردد لقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أحسن كلام ابن أبي العز الحنفي حين شرح قول الطحاوي: ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، يقول: أي: لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه.

فاعلم يا من رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً! أن الاتباع شرط لقبول العبادات، فالأعمال التي تعمل بلا اتباع وتأسٍ لا تزيد عاملها من الله إلا بعداً، وذلك لأن الله تعالى إنما يعبد بأمره الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم لا بالآراء والأهواء؛ قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) مردود عليه.

وقال الحسن البصري: [لا يصح القول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة] .

أيها النبلاء! شتان بين عقول العقلاء وبين عقول أصحاب الأهواء -فتنبهوا- فليس من المعقول أن نتذاكى على النصوص، ونلوي أعناقها، ونستولد منها الأحكام قصراً؛ بحجة أن العصر تغير، وأن الزمن تطور، فإن لم يحتمل المعنى عمليةً قيصريةً، واستعصت النصوص على عقولهم وتأويلاتهم الباطلة فهي ضعيفة الإسناد، فإن سلم الإسناد فهي ضعيفة لمعناها، وهكذا لم يسلم من الأحاديث إلا ما وافق أهواءهم.

يا سبحان الله! عجباً لدين لا ثوابت فيه! أي دين هذا؟! وأي عقيدة تلك التي تميل مع الشهوات وتتغير مع المتغيرات؟! ثم هل نحن أكثر فقهاً وفهماً للأحاديث من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تنزل عليهم القرآن، وعاشوا بين ظهراني نبي الإسلام، وشهدت لهم السنة والقرآن بأنهم خير القرون؟!

<<  <  ج: ص:  >  >>