للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[لحظات حرجة في يوم الأحزاب]

لحظات رهيبة وعصيبة من حياة المسلمين: تعال أيها المسلم! لأُقلب وإياك صفحات ثلاث فقط من تاريخنا، كانت هذه الصفحات لحظات رهيبة وحرجة عصيبة على المسلمين، فكيف تعامل معها المسلمون، وكيف نجَّى الله سبحانه وتعالى الصادقين، ولماذا ينتصر أعداء الدين على المسلمين، ويحصل لهم التمكين في بعض الأحايين؟ الصفحة الأولى: إنها تلك اللحظات الحرجة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في غزوة الأحزاب، ذلك الرعب الذي روّع أهل المدينة وأفزعهم، خلاصة حالة المسلمين في هذه اللحظات، أعددها لكم بالنقاط التالية: أولاً: تجمع الأحزاب من كل مكان: قريش، غطفان، وبنو أسد، وبنو سليم، وبنو مرة، وقبيلة أشجع، وفزارة، ومن اليهود أيضاً بنو قريظة، وبنو النضير؛ تجمعت هذه الأعداد وضرب حصار محكم منها على المدينة، وهذا يذكرنا بتجمع أعداء الدين اليوم كلهم على هذا الدين وعلى الأمة الإسلامية.

ثانياً: غدر اليهود وخيانتهم ونقضهم للعهد في المدينة: وهذا هو ديدنهم الذي أخبر الله عز وجل عنهم في الكتاب، وستظل هذه الصفات إلى يوم القيامة لأنها إخبار من الله عز وجل في القرآن، وإخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم في السنة.

ثالثاً: مكائد المنافقين وتسللهم لواذاً متعللين بالأكاذيب، وتثبيطهم للنفوس، وبثهم للرعب والفزع في القلوب المريضة فقط: وقد قال منافق منهم ويدعى معاتب بن قشير قال في هذه اللحظات: كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.

كلمات تثبيط وتخذيل، كما يفعله الكثير اليوم من المنافقين.

رابعاً: الجوع المقعد، وفقدان الزاد: حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجراً من شدة الجوع، وكما جاء في حديث أنس رضي الله تعالى عنه عند البخاري قال: (يؤتون بملء كف من الشعير فيصنع لهم في الإهاله -والإهاله هي ودك يتحلب من دسم اللحم -وشحمه سنخة- أي: متغيرة فاسدة الطعم- توضع بين يدي القوم، والقوم جياع وهي بشعة في الحلق، ولها ريح منتنة، ثم قال في الحديث: وقد لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً ولا نطعم شيئاً ولا نقدر عليه) .

خامساً: نقطة من وصف حال المسلمين في تلك اللحظات: حفر الخندق والأحوال الجوية: فالبرد شديد ونقلهم التراب على أكتافهم وظهورهم، كما في حديث البراء قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبرّ بطنه) .

وفي لفظ: (حتى وارى عني التراب جلدة بطنه صلى الله عليه وسلم) .

سادساً: الخوف على النساء والعجزة والأطفال، وهم من وراء المجاهدين في آطام المدينة والسعي لحمايتهم بعد غدر اليهود من ورائهم.

سابعاً: قلة المسلمين وقلة السلاح والعتاد أمام تجمع الأحزاب، وقوتهم وكثرة عتادهم.

كل هذه الظروف تجمعت على المسلمين في تلك اللحظات، وفي تلك الساعات الحرجة العصيبة، وتعال واسمع لوصف الحق عز وجل اسمع لوصف الله سبحانه تعالى وهو يصف حال المؤمنين في هذه اللحظات الحرجة يقول سبحانه وتعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:١٠-١١] هذا وصف الله سبحانه وتعالى للموقف: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:١٠-١١] ثم يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:١٢-١٣] انظر التثبيط والتخذيل، وقد يقع في ذلك كثير من ضعاف المسلمين اليوم: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} [الأحزاب:١٣] إنها صورة الهول الذي روَّع المدينة، والكرب الذي شملها، والذي لم ينج منه أحد من أهلها، وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة، من كل جانب من أعلاها ومن أسفلها.

قال محمد بن مسلمة وغيره: [كان ليلنا ونهارنا بالخندق، وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوماً، ويغدو خالد بن الوليد -يوم كان مشركاً- يوماً، ويغدو عمرو بن العاص -يوم كان مشركاً- يوماً، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوماً، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً، ويغدو ضرار بن الخطاب يوماً حتى عظم البلاء، وخاف الناس خوفاً شديداً] وتقول أم سلمة رضي الله عنها: [شهدت -أي مع النبي صلى الله عليه وسلم- معه مشاهد فيها قتال وخوف المريسيع وخيبر، وكنا بـ الحديبية وفي الفتح وحنين، لم يكن من ذلك أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري فـ المدينة تحرس حتى الصباح، نسمع فيها تكبير المسلمين، حتى يصبحوا خوفاً، حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً] .

كيف تعامل المسلمون مع هذه اللحظات الحرجة، ومع هذا الموقف؟ وكيف كان حالهم في وقت الفتن والشدة؟ ماذا فعلوا في هذه الساعات العصيبة؟ لم يترددوا لحظة في نصرة الله عز وجل ولا نصرة دينه، بل كانت هذه الشدائد والفتن والمحن مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين.

لقد كانوا رضوان الله تعالى عليهم ناساً من البشر يفزعون، ويضعفون، ويضيقون بالشدة، لكنهم كانوا مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله عز وجل وتمنعهم من السقوط، وتجدد فيهم الأمل وتحرسهم من اليأس والقنوط، ولذلك اسمع لموقفهم كما يصفه الله تعالى، اسمع لموقف المؤمنين الصادقين في الفتن ومواقف الشدة يوم أن تمسكوا بالعروة الوثقى، يوم أن تمسكوا بلا إله إلا الله فعرفوا أنه ما قادر على شيء في هذا الكون إلا الله، وبعد إذن الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:٢٢] الفتنة والشدة ليس فيها تراجع، بل هذه دلائل وهذه بشائر ومبشرات على أن هذه نصرة للإسلام، ولذلك {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:٢٢] لما رأوا الأحزاب تجمعت عليهم من كل ناحية وتكالبت عليهم الظروف التي ذكرناها قالوا: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:٢٢] .

هذه صورة الإيمان الواثق المطمئن، هذه صورة مشرقة مضيئة للمؤمنين الصادقين وهم في مواجهة المحن والشدائد، ولا عجب فهم تلامذة المدرسة المحمدية، ففي هذه اللحظات الحرجة وفي هذه الشدائد والمصائب التي تجمعت على المسلمين فإذا به صلى الله عليه وآله وسلم يبشرهم بسقوط حكم كسرى وقيصر، في هذه اللحظات العصيبة فإذا به صلى الله عليه وسلم يقول: عندما يضرب الحجر يقول: (الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة -سبحان الله- ثم يضرب الثانية ويقول: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصور المدائن، ثم يضرب الثالثة فيقول: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء بمكاني هذه الساعة) والحديث أخرجه أحمد والنسائي من حديث البراء بن عازب وإسناده حسن، وأصل الحديث عند البخاري في صحيحه في كتاب المغازي.

والأعجب من هذا أنه لما وصله صلى الله عليه وسلم غدر اليهود من بني قريظة ونقضهم للعهد، وهي مصيبة أخرى على تلك المصائب التي تجمعت عليه وعلى أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ومع ذلك كله اسمع لليقين قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! أبشروا بنصر الله وعونه، إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق، وآخذ المفتاح، وليهلكن كسرى وقيصر ولتنفقن أموالهما في سبيل الله) هذا في اللحظات التي يأتيه الخبر أن اليهود قد غدروا.

قال صاحب الظلال رحمه الله: وحين نرانا ضعفنا مرة أو زلزلنا مرة أو فزعنا مرة أو ضقنا مرة بالهول والخطر والشدة والضيق فعلينا ألا نيأس من أنفسنا، وألا نهلع ونحسب أننا هلكنا أو أننا لم نعد نصلح لشيء عظيم أبداً، ولكن علينا في الوقت ذاته أن لا نقف إلى جوار ضعفنا؛ لأنه من فطرتنا البشرية، ونصر عليه لأنه يقع لمن هم خير منا هنالك العروة الوثقى عروة السماء، وعلينا أن نستمسك بها لننهض من الكبوة، ونسترد الثقة والطمأنينة، ونتخذ من الزلزال بشيراً بالنصر، فنثبت ونستقر ونقوى ونطمئن ونسير في الطريق، وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام.

فأقول

<<  <  ج: ص:  >  >>