للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إثبات استواء الله على عرشه]

ثم قال رحمه الله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه) .

يشير بهذا رحمه الله إلى استواء الله عز وجل على العرش، فإن الله سبحانه وتعالى استوى على العرش، واستواؤه ثابت بالكتاب والسنة ثبوتاً لا ريب فيه ولا شك، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر باستوائه على العرش في مواضع عديدة من كتابه الحكيم فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] تكررت في سبعة مواضع من الكتاب الحكيم.

وجاء ذلك -أيضاً- في حديث عمران وفيه: (ثم استوى على العرش) وهو في الصحيحين، فاستواء الله على العرش ثابت لا مرية فيه ولا شك، وأهل السنة والجماعة أثبتوا الاستواء على ما جاء في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، فقالوا: الرحمن على العرش استوى كما قال الرب جل وعلا، وأنكر هذا من أنكره من المتكلمين وعلى رأسهم الجهمية، فإنهم أنكروا استواء الله عز وجل على عرشه.

وتبعهم على هذا جماعة من مثبتة الصفات -كالأشاعرة- فأنكروا الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة، وأثبتوا الاستواء بمعنى الاستيلاء، وقالوا: استوى على العرش أي: استولى عليه، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وتركوا المعنى المتبادر الذي فسره السلف وبينوه إلى معنىً غير ثابت في اللغة، بل في ثبوته في اللغة خلاف: هل يطلق استوى بمعنى استولى؟ العلماء مختلفون في ذلك، والصحيح: أن الاستواء معناه العلو والارتفاع.

وقد جمع ابن القيم رحمه الله في نونيته كلام أهل العلم في تفسير الاستواء فقال: ولهم عبارت عليه أربع قد حصلت للفارس الطعان وهي: استقر وقد على وكذا ار تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني فالمعاني أربعة: ارتفع، وعلا، وصعد، واستقر.

ثم اعلم أن الاستواء الذي يثبته أهل السنة والجماعة لا يلزم عليه نقص؛ لأن كلام الله حق، كما قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:٤٢] ، وما كان حق فلا يمكن أن يلزم عليه لازم باطل مهما كان وكيفما كان، وإنما اللوازم الباطلة التي يلزم بها أهل الباطل أهل السنة والجماعة إنما جاءت من الأفهام السقيمة، والآراء الباطلة، والأقوال المنحرفة، والآراء الضالة.

فلما كان أهل السنة والجماعة على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم سالمين من هذه البدع كانوا على الصراط المستقيم، يعملون بما في الكتاب من الهدى والحق ويقبلونه، فكانوا في روح ونور كما قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ} [الشورى:٥٢] فالقرآن روح ونور، وأعظم الروح والنور ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم لم تدخلهم هذه البدع التي حصل بها التحريف والتضليل، والانحراف عن الصراط المستقيم.

وكل من سار على طريقهم فله من الروح وهو: الحياة، والنور وهو: الهداية بقدر ما يستمسك بالكتاب المبين، والمؤمن إذا عمل بهذا وفق إلى خير كثير، وصرف عنه شر كثير.

أما إذا تبع هذه الأقوال الباطلة والآراء المنحرفة خفت صولة الحق في قلبه، وخفي نور الهدى من فؤاده، ووقع في أنواع الضلال والردى.

ثم قال رحمه الله في الجواب عما ألزم به أهل الباطل أهل الحق من إثبات صفة الاستواء: (وهو مستغن عن العرش) سبحانه وبحمده، فهو الغني الحميد لا حاجة به إلى شيء من خلقه، وإنما استواؤه تعظيم واصطفاء، فهو دال على عظمته سبحانه وتعالى، وهو المتصف بصفات الكمال، ولله المثل الأعلى، وهو اصطفاء واختيار لهذا المخلوق من سائر الخلق حيث أضاف الاستواء إليه، والله جل وعلا لا معقب لحكمه يخلق ما يشاء ويختار، فمن جملة ما اختاره هذا العرش، فهو سبحانه اختاره وخصه بهذه الخاصية العظيمة وهي: أنه جل وعلا استوى عليه.

لكن لا تتوهم أنه محتاج إلى العرش، بل هو الغني عن كل شيء، فالغنى وصف له ذاتي سبحانه وتعالى، وكل شيء مفتقر إليه، ولا غنى للخلق عنه سبحانه وتعالى، وهو الغني الحميد جل وعلا؛ ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:٤١] فكل خلقه مفتقرون إليه، هو الصمد سبحانه وتعالى الذي تذل له الرقاب، وتنزل به الحوائج مع كمال غناه سبحانه وتعالى، فقول المؤلف: (وهو مستغن عن العرش وما دونه) أي: سائر الخلق؛ لئلا يتوهم متوهم من إثبات صفة الاستواء افتقار الله جل وعلا إلى العرش.

ولله المثل الأعلى: الآن السماء فوق الأرض فهل هي محتاجة في استقرارها إلى الأرض؟

الجواب

لا، فلا يلزم من علو المخلوق على الشيء أو استوائه عليه أن يكون محتاجاً إليه، فاقطع هذه الأوهام الباطلة، وإياك أن تصغي إلى شبه المشبهين، فإنهم يوقعون في الردى.

<<  <  ج: ص:  >  >>